بل هو لم يكن قط تفوقا عسكريا واقتصاديا - ماديا - فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائما أكثر عددا وأقوى عدة، وأغنى مالا، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية، أو في خارجها، في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك، ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي، ومن ثم السياسي والقيادي، الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد.
وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي، ومن ثم السياسي والقيادي، اجتاح الإسلام الجاهلية، اجتاحها أولا في الجزيرة العربية، واجتاحها ثانيا في الامبرطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله: امبرطوريتي كسرى وقيصر، ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى، سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان.
ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيرا، حتى في الاكتشافات العسكرية التايخية الشهيرة، كزحف التتار في التاريخ القديم، وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث، ذلك أنه لم يكن اكتساحا عسكريا فحسب، بل كان اكتساحا عقيديا ثقافيا حضاريا كذلك! يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي - من غير إكراه - عقائد الشعوب ولغاتها وتقاليدها وعاداتها، الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر، قديما وحديثا.
لقد كان تفوقا (إنسانيا) كاملا، تفوقا في كل خصائص الإنسانية ومقوماتها، كان ميلادا آخر للإنسان، ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد، ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصيغته، وترك عليها طابعه الخاص. وطغى هذا المد على روسب الحضارات