فأما حق العشرة بالمعروف، فإنه لا سعادة للمسلمين ولا طمأنينة لهم في بيوتهم إلا إذا قامت على العشرة بالمعروف، وهذا الحق أمر الله عز وجل به؛ لما فيه من صلاح أمر الزوج والزوجة، ولما فيه من السعادة لهما، وهو الاختبار الحقيقي للزوج وللزوجة، قال الله في كتابه المبين: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولذلك قال العلماء: المعاشرة بالمعروف حقٌ واجب، يأثم تاركه، ويثاب فاعله، وقال الله عز وجل: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] والمعاشرة بالمعروف، تستلزم أموراً لا بد منها، وهذه الأمور تكون في قلب الإنسان، فيما بينه وبين الله، وتكون في قوله وكلماته وما يصدر منه من عباراته، وتكون منه في تصرفاته وأفعاله، فهناك ثلاثة جوانب للمعاشرة بالمعروف.
الأول -وهو أهمها-: النية الصالحة، فلن يستطيع الرجل أن يعاشر امرأته بالمعروف ولن تستطيع المرأة أن تعاشر زوجها بالمعروف إلا إذا غيّب كلٌ منهما نية صالحة، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231] ، فإذا أراد الإنسان أن يُمسك زوجه، فلتكن نيته صالحةً تجاهها، ولذلك قال العلماء: ما غيّب الإنسان في سريرته وقلبه أمراً -خيراً كان أو شراً- إلا أظهره الله في فلتات لسانه، فالذي ينوي الخير لامرأته ويتزوج المرأة أو يردها إلى عصمته وفي قلبه أن يحسن وأن يكرم وأن يعاشر بمعروف وفّقه الله وسدده، قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70] ، فالله إذا اطلع على قلب الرجل واطلع على قلب المرأة ووجد كلاً منهما يبيّت النية الصالحة وفّق الله كلاً منهما في ظاهره وتصرفاته وأفعاله، لكي يكون منه الخير، فأول ما يوصى به من أراد أن يعاشر بالمعروف: النية الصالحة، وكان بعض العلماء يقول: ينبغي للزوج أن يجدد نيته كل يوم، حتى يُعظِم الله أجره وثوابه، خاصةً إذا كانت المرأة صالحة، أو كانت ذا حقٍ على الإنسان كقريبته ونحو ذلك، فيُغيِّب في قلبه نية الخير لها، وإذا غيّب الخير أظهره الله في أقواله وأفعاله، وهكذا المرأة تغيب في قلبها نية الخير للزوج، وما إن تتغير هذه النية حتى يغير الله ما بالزوجين {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] ، فإذا غيّر الزوج أو الزوجة نيتهما غير الله حالهما من الخير إلى الشر ومن الحسن إلى الأسوأ، ولذلك كل من أصابته مصيبة بينه وبين أهله فلينظر إلى نيته وقلبه، فالأصل في العشرة بالمعروف أنه ينبعث من نية صالحة ومن نيةٍ طيبة ومن قلبٍ يغيّب الخير حتى تظهر الآثار على الجوارح، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) .
الأمر الثاني للعشرة بالمعروف: قول الخير، فكما أن الإنسان ينبغي أن يغيّب في قلبه النية الطيبة حتى يعاشر بالمعروف ينبغي أن يكون قوله موافقاً لمرضاة الله عز وجل، قال بعض العلماء: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] المعروف: كل ما وافق شرع الله عز وجل، والمنكر: كل ما خالف شرع الله، فإذا أراد أن يعاشر زوجته بالمعروف، فعليه أن يتقي الله فيما يقول، وكذلك على المرأة أن تتقي الله فيما تقول، والأصل الذي قرره كتاب الله وقررته سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ينبغي على كل مؤمنٍ ومؤمنة أن يحفظ لسانه، وأن يقول الخير، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت) ، فمن دلائل الإيمان بالله عز وجل حفظ اللسان، واستقامة اللسان حينما يخاطب الناس على العموم وحينما يخاطب الأهل على الخصوص، والله تعالى أوصى المؤمنين -أوصى من قبلنا، ووصيته لمن قبلنا وصيةٌ لنا- فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] فأمرنا إذا تكلمنا وإذا نطقنا أن نقول الحسن الذي يرضيه سبحانه؛ لأن القول الحسن يُحسن إلى صاحبه في الدنيا والآخرة، والقول السيئ يسيء إلى صاحبه في الدنيا والآخرة.
الحلم زينٌ والسكوت سلامةٌ فإذا نطقت فلا تكن مهذارا ما إن ندمت على السكوت مرةٍ ولقد ندمت على الكلام مرارا فالكلمة إذا خرجت من اللسان لا تعود، وإذا خرجت جارحةً قاسية أدمت القلوب وأحدثت فيها من الفساد ومن تغيُّر الإلفة والمحبة ما الله به عليم؛ ولذلك أوصى الله بحفظ اللسان في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل العلماء المحاور التي تكون بها العشرة بالمعروف في الأقوال بين الزوجين في أحوال: الأول: في النداء، إذا نادى الزوج الزوجة، وإذا نادت الزوجة زوجها.
الثاني: في الطلب عند الحاجة، تطلب منه أو يطلب منها.
والثالث: عند المحاورة، والكلام، والحديث، والمباسطة.
والرابع: عند الخلاف والنقاش.
الحالة الأولى: عند النداء.
إذا نادت المرأة بعلها فإنه ينبغي لكل من الزوجين أن يحسن النداء، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فيقول: (يا عائش!) قال العلماء: إن هذا اللفظ يدل على الإكرام والملاطفة، وحسن التبعُّل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهله، فهذا منهجٌ للمسلم إذا نادى زوجه، أن يجعل في ندائه من الكلمات ما ينبئ عن شيءٍ من المحبة والملاطفة، فالغلظة والوحشية في النداء بأسلوب القسر والقهر من الرجل أو بأسلوب السخرية والتهكم من المرأة تفسد المحبة، وتقطع أواصر الألفة بين الزوج والزوجة، فتتخير الزوجة أحب الأسماء إلى زوجها، ويتخير الزوج أحب الأسماء لزوجه، ويكون كما قال عمر: (إن مما يبعث المودة والمحبة أن ينادي المسلم أخاه بأحب الأسماء إليه) ، فهي إحدى الثلاث التي تزيد من ود المسلم لأخيه المسلم، فكيف بالزوجة مع زوجها؟! فمن الأخطاء أن يختار الزوج لزوجته كلمة يجرحها بها، ويجعلها طريقاً للتعيير والانتقاص منها، ومن الأخطاء كذلك أن الزوجة تختار لزوجها كلمة تنتقصه أو تحقِّره بها، وكان بعض العلماء يقول: الأفضل ألا تناديه وألا يناديها بالاسم المجرد، فمن أكرم ما يكون في النداء النداء بالكنية، فهذا من أفضل ما يكون.
وقال العلماء: إنه ما من زوج يألف ويعتاد نداء زوجته بالملاطفة إلا قابلته المرأة بمثل ذلك وأحسن، فإن النساء جبلن على الملاطفة، وجبلت على حب الدعة والرحمة والألفة، فإذا قابلها الزوج بذلك قابلته بما هو أحسن وأفضل.
الحالة الثانية: عند الطلب.
إذا خاطب الرجل امرأته عند الطلب وأراد منها أمراً، يطلب ذلك منها بأسلوبٍ لا يشعرها بالخدمة والإذلال والامتهان والانتقاص، والمرأة إذا طلبت من بعلها شيئاً لا تجحفه ولا تؤذيه ولا تضره، ولا تختار الكلمات والألفاظ التي تقلقه وتزعجه، فهذا مما يحفظ اللسان، ويعين على العشرة بالمعروف في الكلمات، كذلك أيضاً قال صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين رضي الله عنها، وهو في المسجد: (ناوليني الخُمْرَة، قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك) فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم، يسأل حاجته من أم المؤمنين، فلما اعتذرت، اعتذرت بالعذر الشرعي، وما قالت: لا أستطيع إبهاماً، أو معللة عدم استطاعتها بشيءٍ مجهول، وإنما قالت: إني حائض، فبماذا تأمرني؟ وماذا تريد؟ وكيف أفعل؟ فقال: (إن حيضتك ليست في يدك) ، أي إذا ناولتينيها فإن دخول اليد ليس كدخول الكل.
الشاهد: الملاطفة في النداء والطلب وعند الحاجة، وقد تقع المشاكل الزوجية بكثرة الحوائج، ذكر بعض العلماء: أن المرأة إذا أثقل عليها الزوج بالحوائج، وكان أسلوبه في الطلب مزعجاً مقلقاً، فإن هذا من أهم الأسباب التي تفسد المودة وتفسد المحبة؛ لأن المرأة تشعر وكأنها خادمة وكأنها ذليلةٌ في بيت زوجها، ومما أوصى به الحكماء والعقلاء، بل أوصى به قبل ذلك رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم، المكافأة عند الطلب ولو بالكلمات، فالزوج إذا احتاج من امرأته شيئاً وطلبها وجاءته بالشيء قابلها بالكلمة الطيبة، من الدعاء لها بالخير، والدعاء أن يبارك الله فيها، فالمرأة إذا وجدت أن معروفها يُشكر وأن خيرها يُذكر ولا يُكفر حمدت ذلك من بعلها، ونشطت للإحسان إليه والقيام بأمره وشأنه، بل كان ذلك معيناً لها على البقاء على العشرة بالمعروف.
الحالة الثالثة: حالة الحديث والمباسطة، فلا ينبغي للمرأة ولا ينبغي للرجل أن يُحدِّث كلٌ منهما الآخر في وقتٍ لا يتناسبُ فيه الحديث؛ ولذلك ذكر بعض أهل العلم أن من الأذية بالقول أن تتخير المرأة ساعات التعب والنصب لمحادثة الزوج، أو يتخير الزوج ساعات التعب والنصب لمحادثة زوجته، فهذا كله مما يحدث السآمة والملل، ويخالف العشرة بالمعروف التي أمر الله عز وجل بها، وقالوا: إذا باسط الرجل امرأته فليتخير أحسن الألفاظ، وإذا قص لها تخير أحسن القصص وأفضلها، مما يحسن وقعه ويطيب أثره.
الحالة الرابعة: عند الخصومة والنزاع، فمن العشرة بالمعروف إذا وقع الخلاف بين الرجل والمرأة أن يحدد الخلاف بينه وبين امرأته، وأن يبين لها الخطأ إن أخطأت بأسلوبٍ بعيدٍ عن التعنيف والتقريع إذا أراد أن يقرِّرها، وبعد أن تقر وتعترف إن شاء وبخها وإن شاء عفا عنها، أما أن يبادرها بالهجوم مباشرة قبل أن يبين لها خطأها فإن هذا مما يقطع الألفة والمحبة ويمنع من العشرة بالمعروف؛ لأنها تحس وكأنها مظلومة، والأفضل والأكمل: أن الرجل إذا عتب على امرأته شيئاً أن يتلطف في بيان خطئها، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم متى تكون أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها راضيةً عنه ومتى تكون ساخطة، فإن كانت راضيةً عنه قالت: (ورب محمد) ، وإن كان في نفسها شيئاً قالت رضي الله عنها: (ورب إبراهيم) ، فعلم عليه الصلاة والسلام أنها ما اختارت الحلف