هذه الحقوق أعظمها وأجلّها: حق الأمر بطاعة الله عز وجل، فأول ما ذكر العلماء من حقوق الزوجة على زوجها أن يأمرها بطاعة الله تبارك وتعالى، وهذا الحق من أجله قام بيت الزوجية، فإن الله شرع الزواج وأباح النكاح؛ لكي يكون عوناً على طاعته، ويكون سبيلاً إلى رحمته، فالواجب على الزوج أن يأمر زوجته بما أمر الله، وأن ينهاها عما حرم الله، وأن يأخذ بحجزها عن عقوبة الله وناره، أشار الله تعالى إلى هذا الحق العظيم بقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] .
قال بعض العلماء: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، والأمر للأمة وللرجال من الأمة أن يأمروا أهليهم بما أمر الله؛ وذلك بدعوتهم لفعل ما أوجب الله وترك ما حرم الله عز وجل، فيكون الزوج في البيت آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر؛ إذا رأى خيراً ثبّت قلب المرأة عليه، وإذا رأى حراماً صرفها عنه وحذّرها ووعظها وذكّرها، وإلا أخذها بالقوة وأطرها على الحق أطراً، وقصرها عليه قصراً حتى يقوم حق الله في بيته.
قال بعض العلماء: كان بعض أهل العلم يتعجب من هذه الآية الكريمة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه:132] ؛ لأن الله قال فيها: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه:132] ثم قال بعد أن أمره بالصبر والاصطبار عليها: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132] ، قالوا: إنه ما من زوج يقوم بحق الله وما فرض الله عليه في أهله وزوجه، ويعظها ويذكرها حتى يقوم البيت على طاعة الله ومرضاة الله، إلا كفاه الله أمر الدنيا، فالله عز وجل يقول: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه:132] كأن إقامته لأمر الله طريقٌ للبركة في الرزق وطريقٌ للخير والنعمة على هذا البيت المسلم القائم على طاعة الله ومحبة الله عز وجل.
للمرأة على بعلها حق الأمر بطاعة الله؛ ولذلك كان من وصية الله لعباده المؤمنين إذا أردوا الزواج: أن يختاروا المرأة الدينة المؤمنة الصالحة؛ لأنها هي التي تقيم بيتها على أمر الله عز وجل وما فرض الله، قال صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) ، قال العلماء: إنما قال: (فاظفر بذات الدين) ؛ لأنها غنيمةٌ وأي غنيمة، إن أمرها بطاعة الله ائتمرت، وإن نهاها عن حدود الله ومحارمه انكفت وانزجرت، وهذا الحق -وهو الأمر بطاعة الله- إذا ضيعه الزوج خذله الله في بيته، وخذله الله مع أهله وزوجه وأولاده، فلم تر عينك رجلاً لا يأمر بما أمر الله في بيته ولا يتمعر وجهه عند انتهاك حدود الله مع أهله وولده إلا سلبه الله الكرامة وجعله في مذلةٍ ومهانة، وجاء اليوم الذي يرى فيه سوء عاقبة التفريط في حق الله الذي أوجب الله عليه في أهله وولده.
أمرنا الله جل وعلا أن نقي أنفسنا وأهلينا ناراً وقودها الناس والحجارة، فمن ضيع هذا الحق سلب الله المهابة من وجهه، وسلب الله المهابة من قلب أهله وولده.
وأما إذا رأت عيناك زوجاً آخذاً بحجز زوجته عن نار الله يقيمها على طاعة الله ومرضاة الله وجدت المحبة والمودة والهيبة والإجلال، ومن وفّى لله وفّى الله له؛ ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] .
فالذي يأمر زوجته بما أمر الله ويقيمها على طاعة الله ومرضاة الله يضع له القبول والمحبة والهيبة والكرامة، ولذلك ينبغي على الزوج أن يضع نصب عينيه أول ما يضع أن يقيم بيت الزوجية على طاعة الله وتقواه، ولا يستطيع أن يقوم بهذا الحق على أتمّ الوجوه وأكملها إلا بأمورٍ مهمة نبّه العلماء عليها منها: الأول: -وهو أعظمها- أنه إذا أراد نصيحة زوجته بأمرٍ مما أمر الله أو نهيٍ عما حرم الله، فينبغي أن يكون السبب الباعث له هو مرضاة الله، بمعنى: أنه إذا وعظ زوجته فأراد أن يأمرها بطاعة الله أو ينهاها عن معصية الله لا ينطلق من جهة السمعة أو من جهة العاطفة، ولذلك تجد الرجل يقول لامرأته: فضحتيني، أو ماذا يقول الناس عني، أو نحو ذلك من محبة السُّمعة أو العواطف التي لا ينبغي أن تكون هي أساس دعوته ومحور وعظه ونصحه.
قال بعض العلماء: لا يبارك الله لكثيرٍ من الأزواج في وعظهم لزوجاتهم؛ لأنهم يعظون خوفاً على أنفسهم وخوفاً على السمعة، لكن إذا وعظ الزوج وهو يخاف الله على زوجته ويخشى أن يصيبها عذاب الله بارك الله له في كلماته، وبارك الله له في موعظته، وبلغت الموعظةُ مبلغها، وكان لها أبلغ الأثر، ولذلك أول ما يوصى به من يأمر أهله ويعظهم ويريد أن يحثهم على طاعة الله أن يُخلص لله في دعوته.
الثاني: القدوة، فإن الزوجة لا تطيع زوجها ولا تمتثل أمره ولا تعينه على أداء هذا الحق بامتثال ما يقول إلا إذا كان قدوةً لها، ولذلك الواجب على الزوج أن يهيئ من نفسه القدوة لزوجته، كيف تطيع الزوجة زوجها إذا أمرها بواجب وحثّها على أدائه وهي تراه يضيع حقوق الله وواجباته؟! كيف تطيع الزوجة زوجاً يقول لها: اتق الله، وتراه ينام عن الصلوات، ويضيع الفرائض والواجبات، وتراه لا يبالي بحقوق الناس؟! فلذلك إذا وجدت القدوة تأثرت الزوجة، وأحسّت أن هذا الكلام الذي يخرج من الزوج يخرج بإيمانٍ وقناعة، وأنه ينبغي أن تمتثله وأن تسير على نهجه؛ لأنها ترى الكلام مطابقاً للفعل فتتأثر بذلك وسُرعان ما تمتثل.
الثالث: تخيّر الكلمات الطيبة التي تلامس شغاف القلوب وتؤثر في المرأة فتستجيب لداع الله بامتثال أمره وترك نهيه، وهذا هو الذي عناه الله وأوصى به كل من يعي، فقال سبحانه: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] ، فالذي يريد أن يقيم زوجته على طاعة الله يتخيّر أفضل الألفاظ وأحسنها، والتي تؤثر في نفسية الزوجة ترغيباً أو ترهيباً، فإن كانت الزوجة تستجيب بالترغيب حثّها بالترغيب، وإن كان تستجيب بالترهيب حثّها بالترهيب وخوفها، ويكون ذلك بقدر مع الإشفاق وخوف من الله عز وجل.
هذه الأمور إذا تهيأت ينبغي أن يسلم الزوج من ضدها، مما ينفِّر من قبول دعوته، فالكلمات الجارحة، والعبارات القاسية: أنتِ لا تفعلين، أنت عاصية، أنت كذا، فهذا لا ينبغي، بل ينبغي على الزوج إذا وعظ زوجته خاصةً عند الخصومة أو عند الخطأ والزلل أن لا يفجر في قوله.
قال العلماء: الفجور في القول أن يبالغ في تقبيح وصفها، فيصفها بأشنع الأوصاف، وهي لا تستحق ذلك الوصف، وهذا هو من شأن النفاق، فإن المنافق إذا خاصم فجر، فبعض الأزواج إذا رأى أقلّ تقصير من زوجته حمّل ذلك التقصير ما لم يحتمل من الوصف، وقرع زوجته بأشنع العبارات وأقساها وأقذعها، فإذا كانت المرأة صالحة أحست بالنقص وتأثرت، فإن القلوب تتأثر بالكلمات الجارحة، ولو كان الرجل مستقيماً وعلى طاعة الله فإنه يتأثر، ولذلك ينبغي على الزوج أن يتحفّظ وأن يتوقى في الألفاظ، وهذا أصل في الدعوة إلى الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ، فالموعظة الحسنة هي الموعظة المشتملة على الكلمات الطيبة والنصائح القيمة الهادفة التي تنصب على الأمر الذي لا يراد فعله.