وهذه الحقوق -أعني حقوق الأرحام- أكثر ما يحتاج إليها في التطبيق، والذي دعانا أن نفردها بهذا المجلس؛ شدة الحاجة، فقد كان الناس يحفظون حقوق قرابات الزوج والزوجة؛ لأن الفطر لم تتلوث، وكان الناس يربون أبناءهم وبناتهم على حفظ حقوق الأرحام، ولكن لما ساءت التربية في هذه الأزمنة المتأخرة، وأصبحت هذه الحقوق ضائعة، احتجنا للتنبيه عليها، ويحتاج إلى التنبيه عليها، والدعوة إلى التزامها والقيام بها أكثر وعلى الخطباء وطلاب العلم أن يعتنوا بذلك، فقد بلغ ببعضهم أن يُجلس والد زوجته وهو حطمة في آخر عمره لكي يقاضيه.
يقول بعض القضاة: من أصعب ما أراه من القضايا ومن أصعب ما يؤلمني ويزعجني في الفصل بين الناس أن أرى شيخاً كبيراً في آخر عمره له مكانته وجلالته، ثم يجلس معه حدث السن السفيه الجاهل لكي يسب ابنته في وجهه، ويكشف عورته، ويهينه ويذله، لا يرعى فيه إلاًّ ولا ذمة.
يقول: حتى أني أتشوش في بعض الأحيان، ولا أستطيع أن أفصل، مما أرى ومما أسمع، فأين الذي وصى الله به وأين الذي يفعله الناس؟!! تراه في آخر عمره وتجد الزوج يصب عليه البلايا، وكل يومٍ وهو واقف على بابه يشتكي من ابنته، ويذكر عوراتها وسوءاتها وزلاتها وخطيئاتها، وقد يكون رجلاً مريضاً؛ فلا يرحمه في مرضه، ولا يرعى كِبرَ سنه، فهذه أمور تتفطر لها القلوب، ويحزن لها كل مؤمن، فالواجب أن يعنى بمثل هذا، ولا يمكن لنا أن نتلافى مثل هذه السلبيات إلا بأمرين مهمين: الأمر الأول: التربية الصالحة، أبناؤنا وبناتنا إذا زجّ بهم إلى الزواج، يعلمون ويوجهون ويربون على الأخلاق الحميدة والآداب الكريمة، على حفظ الحقوق، ورعاية الذمة، فيصبح الابن بمجرد أن يزوج كأنه مدينٌ بالفضل، ويصبح يرعى حق والد زوجته وقرابتها، والبنت كذلك، تعلمها أمها وترعاها، وتجلس معها وتوجهها التوجيه الكامل الفاضل، الذي يبعثها على مكارم الأخلاق، وعلى محاسن العادات.
وأما الأمر الثاني: فالتواصي بالحق، ولقد كثرت هذه المشاكل الزوجية بين الناس، وقلّ أن تجد من ينصح، وقلّ أن تجد من يعظ، أو يذكر، بل تجد الصاحب يجلس مع صاحبه والصديق مع صديقه والقريب مع قريبه يسمع بملء أذنه الزوج يسب أهل زوجته ولا يقول له: اتق الله، ولا اذكر المعروف، ولا يقول له ما قال الله: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] .
فيا أيها الأحبة في الله! واجب أن نتناصح، واجب أن نحيي ما أمر الله بإحيائه من تقوى الله في الرحم، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] ، وقد كانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء، إذا اشتد الأمر بين الرجل والرجل فأراد أن يذكره ويخوفه حتى يعود إليه قال له: نشدتك الله والرحم، فينكسر الرجل ويمتنع، فإن كان يريد منه ألا يفعل شيئاً تركه، وإن كان يريد منه أن يفعل هذا الشيء فعله؛ لأنه يحس أن هذه الرحم شيءٌ كبير، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم رحماً) وهي مصر.
فـ أم إسماعيل هاجر وهي من مصر، وكذلك أيضاً أم إبراهيم مارية من مصر، فقال عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بأهلها خيراً) مع أنها رحم النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن جعله رحماً للأمة: (استوصوا بها خيراً، فإن لهم رحماً) ، هذا كله في الرحم مع بُعدها، فكيف إذا قربت الرحم؟!! فلذلك ينبغي التواصي بمثل هذه الحقوق، وإحياؤها في النفوس، وإذا جلسنا في المجالس ورأينا من يذم أهل زوجه ذكرناه بالله وخوفناه بالله، وإذا سمعنا بمشكلة بين قرابة منا -بين أرحام- وصلت إلى قطيعة الرحم فليتدخل العقلاء والحكماء، وليتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم؛ وذلك هو الذي يرضي الله، وهو الذي وصّى الله به من فوق سبع سماوات.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن الأحوال، وأن يحسن لنا ولكم الخاتمة والمآل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.