وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أنى رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة، وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القاعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير, ونحو هذا , وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, ما شاء الله. وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ. وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأقواهم قلباً وأسرهم نفساً تلوح نضرة النعيم على وجهه , وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحانه من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره. أو نحو هذا. وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً. وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. انتهى.
فالحياة الطيبة لا تعني تحصيل نعيم البدن بالطعام والشراب واللذة والراحة، وإنما تعني في الأساس نعيم القلب وطيب النفس وانشراح الصدر، وهذا لا يكون في الدنيا إلا للمؤمن بمحبته لربه وكثرة ذكره واستقامته على شرعه واتباعه لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومما قال ابن القيم في الجواب الكافي ما يلي: قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. فالجنة مأواه يوم اللقاء، وجنة المعرفة والمحبة والأنس بالله والشوق إلى لقائه والفرح به والرضا عنه وبه مأوى روحه في هذه الدار، فمن كانت هذه الجنة مأواه ههنا كانت جنة الخلد مأواه يوم المعاد، ومن حُرم هذه الجنة فهو لتلك الجنة أشد حرماناً، والأبرار في نعيم وإن اشتد بهم العيش وضاقت بهم الدنيا، والفجار في جحيم وإن اتسعت عليهم الدنيا، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. وطيب