تمهيد: قال الشيخ ناصر العمر حفظه الله في كتابه آيات للسائلين "بتصرف":
الدنيا دار بلاء، فالناس كل الناس مبتلون فيها بالضراء أو السراء، قال تعالى "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" [محمد:31]، وقال في مواضع أُخر "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" [الأنبياء:35]، "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" [الكهف:7]، "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" [البقرة:155]، وقال عن السابقين: "وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [لأعراف:168]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وكلما نظر صاحب المصيبة إلى حال غيره من المصابين هان عليه ما هو فيه، ورأى لطف الله - تعالى- به , ومن الحكمة المنقولة ما يروى من أن الإسكندر بن فيلبس المعروف بالمقدوني لما حضرته الوفاة بعث لأمه رسالة يقول فيها: إذا بلغك نبأ وفاتي فأقيمي مأدبة، وادعي كل الناس إلاّ من أصابته مصيبة، ففعلت، فلم يحضر أحد، فعلمت أنه أراد أن يعزيها، فإن المصائب إذا عُلم بأن جنسها يطرق الناس كل الناس، لم يبغت العاقل ثابت الجنان راجح اللب بها، ومهما كان المُصاب فالمؤمن على غُنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" رواه مسلم، بل مع الصبر على الضراء تراه يحمد الله أن جعل مصيبته في دنياه لا في دينه، بل ترى بعضهم يشهد في ذلك المقام المنة، فيعلم أنه وإن أُعسر شهراً فقد أيسر دهراً، وإن مارس الشدة أياماً، فقد لابس النعمة أعواماً، على ثقة من أن ساعة الضراء تزول، كما أن مدة السراء قد تحول، وكما لم تثبت نوبة المنحة، فلن تلبث نوبة المحنة، فما أعظم طمأنينة قلب من كان هذه حاله، وهنيئاً له الفوز بالدرجات العلى يوم القيامة.
ومما ينبغي التنبه له هو أن الصبر والفرار إلى الله لا يُنافي بذل الأسباب بل يقتضيها، فهذا يعقوب عليه السلام، صاحب الصبر الجميل، قال وهو الصادق فيما يقول: "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله"، ومع ذلك لم يُغفل قانون الأسباب، "يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"، فأنت تراه يوجه بنيه كل بنيه: يا بَنيَّ، لا تيأسوا من روح الله، فكل عسير إذا يسره الله يهون، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، لا يقعدنكم اليأس، تحركوا وامضوا، فباحثوا عن أخبار من تلوموني في ذكره، وعن أخيه، وفي هذا بيان لقوة نفسه عليه السلام وثبات جنانه، ولك أن تقدر ما يقوله الناس له، وعظيم إنكارهم عليه، وما يتحدثون به في مجتمعه، وخذ مقياساً لذلك كلمة بنيه: " قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ " فإذا كان هذا قول الأبناء المقربين فكيف بالغرباء الأبعدين، بل كيف بمن لم يعرف له مقام نبوة؟ إن يعقوب عليه السلام لقي من الإنكار ما لقي حتى من الأبناء، وربما رأى من لا يبصر بنور الوحي أن رأيهم هو الرأي، إلاّ أن يقين