دخل ضرار بن ضمرة صاحب لواء علي بن أبي طالب على معاوية بن أبي سفيان فقال: يا ضرار! صف لي علي بن أبي طالب، وهذه منها دلالة على أن معاوية رضي الله عنه وأرضاه كان يعرف قدر علي، ويعظم قدر علي، ويوقر ويحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، لا كما يظن الجاهلون، فقال ضرار: تعفيني يا أمير المؤمنين، فقال: لابد من وصفه، فقال: إن كان لابد فقد كان بعيد الندى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته.
كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا دعوناه، ويعطينا إذا سألناه، ويأتينا إذا أتيناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه لهيبته، يعني لما خاف من ربه خوف الله منه البشر، ولما عظم الله في قلبه عظمه البشر جزاء وفاقاً، ولما وقر ربه جل في علاه أصبح أصحابه يوقرونه جزاء وفاقاً.
قال: ولا نبتدؤه لعظمته، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطيع القوي في باطله، ولا ييئس الضعيف من عدله، وبالله أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى عليه الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل بمحرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ الكليل، ويبكي بكاء الحزين، يقول: يا دنيا إليك عني، غري غيري، لا حاجة لي بك، أبي تعرضت أم إلى تشوفت؟ أإلي أئلي تعرضتي أم إلي تشاورتي؟! هيهات هيهات! قد بتتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وخطرك حقير، وزادك يسير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
فنسأل الله أن يرحم علياً، ويجعله مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.
فهملت عينا معاوية بالدموع وقال: رحم الله أبا الحسن! فلقد كان كذلك.
والله إنه قد كان كذلك وفوق ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مدحه مدحة ليس بعدها مدحة، حيث قال: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، ولقد أعمل سيفه في سبيل الله، ورفع راية الله، وباع نفسه صدقاً لربه جل في علاه، ففي غزوة بدر هو الذي افتتح القتل والقتال عندما طلب أكفاء المبارزة، فقام علي بن أبي طالب وحمزة أسد الله ورسوله، ثم ابتدأ القتال بعدما قتل علي من قاتله وقتل حمزة من قاتله، وأتيا على الثالث فقتلاه جميعاً.