القوي وشدت أزر الضعيف وعاقبت المعتدي. ولكنها لم تَكْفِ وحدها لإصلاح المجتمع، لأن المعتدي يفرّ من وجه الحكومة أو يسيطر عليها ويعود إلى ظلمه، فلا تكفي الحكومة. وارتقى الإنسان درجة أخرى، فجاءت الأعراف والأخلاق فهذّبت الغرائز بعض التهذيب، ولكن بقي في الناس من لا يبالي بالأخلاق ولا بالأعراف، فلم يصلح المجتمع.
وارتقى الإنسان درجة أخرى، فجاء الدين فأصلح ما لم يصلحه القانون ولا العرف ولا الخلق؛ ذلك أن الذي يستقيم خوفاً من عقوبة القانون يَعْوَجّ إذا أَمِنَ أن يصل إليه القانون، والذي يستقيم اتّباعاً للعرف إنما يستقيم ما دام الناس يرونه، فإذا أمن أن يراه الناس لم يعد يبالي ما يفعل. أما الذي يستقيم اتّباعاً للدين وخوفاً من الله فإنه يبقى أبداً مستقيماً، لأنه يعلم أن الله مطّلع عليه دائماً.
ولو ترك الإنسان كل ما يثقل عليه وفعل كل ما تميل نفسه إليه لذهبت الصحة، وذهبت الأخلاق، وذهب القانون، ولم يعد الإنسان إنساناً ولكن وحشاً من وحوش الغاب؛ ذلك أن الدواء المرّ ثقيل على المريض، وتجرّعه مؤلم، والنفس تميل عنه وتنفر منه، فلو اتبعنا ميل النفس وتركنا الدواء لذهبت الصحة. وحبسك النفس عن اتباع هواها، وإمساكها عن أن تبطش عند الغضب وأن تأخذ عند الرغبة وأن تكفّ عند الشهوة ثقيل على النفس، فلو تركناه لأنه ثقيل عليها لذهبت الأخلاق. والإنسان خُلق مُحبّاً لنفسه مُريداً كل خير لها، ومنعُه نفسَه مما تريد ثقيل عليها، فلو تركنا كل إنسان يأخذ ما يشتهي من مال غيره وأهله لذهب القانون.