وكانت السيارة قد بلغت بنا «الديرة»، وصرنا في جوار المسجد الكبير، فتهلل وجهي وأحسست مثل ما يحسه الغريب الضالّ إذا أبصر في زحمة الناس وجهَ حبيب يعرفه ويألفه، وصحت: هذه هي الرياض التي أعرفها، هذه الأسواق الضيقة وهذه المنازل المبنية من اللبن والطين ... إنّ لي هنا ذكريات، والذكريات هي الحياة، أما تلك الشوارع التي مررنا بها بعد المطار فليس لي فيها ذكرى، فهي -على جمالها- غريبة عني، وهذه -على ما هي عليه- أحسّ كأني منها أو كأنها مني.
وأعجب هذا الكلام أحدَ الجماعة وأثار كمائن نفسه فقال: إي والله، هذه هي بلدنا وهذه حياتنا، فيا ليت هذه المدنية الغربية لم تصل إلينا ولم نَرَها! إن هذه البيوت المبنية من الطين التي لا تنيرها الكهرباء ولا تصل إليها السيارات، وليس فيها البرّادات ولا الغسّالات، خيرٌ من تلك العمارات وما فيها. لقد أفسدت هذه المدنية أخلاقنا وأضاعت علينا ديننا، وما جاءنا منها إلا الشر!
وانبرى له آخر فقال له: أتريد منا أن نعود إلى عهد البداوة في عصر الذرّة والصاروخ، وأن ندع ثمرات الحضارة ونعيش محرومين منها، على حين يستمتع الناس من حولنا بها؟ إنها مدنيّة العصر، ليست لأمّة دون أمة ولا لبلد دون بلد.
وكثر المتكلمون وتداخلت الأصوات، ولكن الأقوال كلها كانت تتردّد بين رأيين: هل علينا أن نأخذ بهذه المدنية بكل ما فيها ونقبلها بخيرها وشرها، لأنه لا بد منها ولا انفكاك عنها، أم علينا أن نتركها ونبتعد عنها لأنها لا توافق أحكام ديننا ولا تمشي مع خلائقنا، ولأن الإسلام ينكر الإقبال عليها والأخذ بها؟