درست فيها حياته وآراءه وأدبه، فكان مما وجدت أنه كان يجتمع إليه عشرون ألفاً أو ثلاثون ألفاً، وربما بالغ المبالغون فأوصلوا عدد المستمعين إلى مئة ألف. فكنت أعجب منه وأستكثره وأحسبه مبالغة، وأسأل: كيف يسمع هذا الجمع العظيم؟ ثم رأيت أنه يتكلم متمهلاً، يسوق الجملة بعد الجملة، فينقلها مَن دنا منه إلى من نأى عنه. ذلك يوم صار الوعظ صناعة ينقطع ناس إليها، يشتغلون بها ويدأبون عليها، وكان مدارها على ترقيق القلوب وإسالة المدامع وتحريك العواطف (?). بدأ ذلك قبل انقطاع عهد الخلفاء الراشدين، حتى إني أحفظ (وإن لم أتثبّت بالمراجعة الآن من صحة هذا الذي أحفظ) أن علياً رضي الله عنه منع القُصّاص (وكانوا يسمون الوُعّاظ القُصّاص) واستثنى الحسن البصري.
وصار لمجالس الوعظ مظاهر شكلية وترتيبات عجيبة، وصف بعضَها ابن جُبَير الأندلسي في رحلته حين زار بغداد وتكلم عن ابن الجوزي، ووصفها ابن الجوزي نفسه، فقد كان يحتشد لها الناس ويأتون قبلها بساعات، يحجزون المحلات ويدفعون فيها الأجور البالغات، وتوقد الشموع، ويبدأ المجلس بتلاوة الآية أو الآيات التي سيتكلم الواعظ في تفسيرها، يتلونها بالأصوات الحسنة والأنغام المتعددة، وتتخلل الموعظةَ أبياتٌ من الشعر، ويكون فيها الصياح والصراخ والتوبة والاستغفار، ولهذه التوبة صورة ما عرفها السلف، ويكون فيها قص الشعور. ولم أحقق ما