تكلمت أولاً عن العلم: ما هو العلم؟ فوجدت أن العلم بالمعنى اللغوي هو ما يقابل الجهل، وأن العلم بالمعنى الأصولي المنطقي هو الذي يقابل الظنّ، أي أن مراتب الوجود الذهني عند علمائنا ثلاث: «الشكّ»، وهو تَساوي جانبَي الإثبات والنفي. فإن سُئلتَ وأنت في المدينة: هل في القرية مطر؟ قلتَ: لا أدري. لأن احتمال نزول المطر كاحتمال عدمه، وليس لديك دليل لنفيه ولا لإثباته. فإن لمحت في الأفق من جهة القرية سحاباً رجح عندك جانب الإثبات رجحاناً قليلاً، 55 بالمئة مثلاً، فقلت: «أظنّ» أن فيها مطراً. فإن تراكب السحاب وتراكم واسودّ ولمعت خلاله البروق صار عندك «غلبة الظنّ». فإن ذهبت إلى القرية فرأيت المطر، أو تواتر به إليك الخبر، فهذا هو «العلم».
فالعلم هنا بمعنى اليقين، ولذلك قال جمهور العلماء إن حديث الآحاد لا يُفيد العلم ولو صحّ، وإنما يُعمَل به بغلبة الظنّ. وقال أهل الحديث وكثير من فقهاء الحنابلة إنه إن صحّ أفاده. فمن أنكر -على رأي الجمهور- عقيدةً جاءت في حديث آحاد لم نحكم بكفره، لأننا لا نستطيع أن نجزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله كما نجزم بأن القرآن هو كلام الله، وإن كان المحدّثون بذلوا من الجهد في تحقيق الأسانيد غاية ما في طاقة البشر.
أقسام العلم
والعلم بمعنى اليقين قسّمه علماؤنا إلى «علم ضروري»، وهو اليقين الذي يجيء من طريق الحسّ، و «علم نظري»، وهو ما يحتاج إلى دليل.