وأنا معلم قديم، بل إنني من أقدم المعلمين الذين يمشون اليوم على وجه هذه الكرة، قَلَّ مَن أمضى في التعليم مثل ما أمضيت فيه من السنين، من سنة 1345هـ قبل أن أكمل التعلّم، كنت طالباً مع الطلاب الكبار ومعلماً للتلاميذ الصغار، ولم أنقطع تماماً عن التعليم إلى الآن؛ إنها ستون سنة، فكم من الأحياء اليوم مَن أمضى ستين سنة في التعليم؟
علّمت في المدارس الأولية، التي تقابل مدارس الحضانة في هذه الأيام، لولا أن مدارس الحضانة فيها أَوَانس لِطاف ظِراف عندهن اللعب والألطاف والأولاد يسرحون في حديقة فيها الورد والزهر، وفي تلك المدارس -التي بدأت أعلّم فيها- شيوخ غِلاظ شِداد هم في الناس كزبانية جهنم في الملائكة (ونعوذ بالله من جهنم وزبانيتها)؛ ما عندهم إلا الفَلَق ولا يخاطبون التلاميذ إلا بلغة الخيزران أو قضبان الرمّان، لا يُسمعونهم النصائح من آذانهم بل من بُطون أقدامهم.
قضيت في مثل هذه المدارس (أو هي على التعبير الصحيح «الكتاتيب») بعضَ يوم حدّثتكم مرة عما وجدت فيه، وكان ذلك سنة 1332هـ ولم أكمل السنوات الخمس الأولى من عمري، وقد مرّ عليه أكثر من ثلاثة أرباع القرن ولا يزال سواده أمام عيني، ولا تزال مرارته في حلقي وذكراه غَصّةً في نفسي (?).