وحين وصل الحال إلى فرعون هَمَّ بقتل موسى وقف هذا الرجل وقفته العظيمة مدافعا محذرا، دون أن يكون فى موقفه هذا ما يدل دلالة صريحة على إعلانه للإيمان، بل كان اعتماده على المنطق الذى يقتضى أن هذا الرجل ـ موسى عليه السلام ـ إما أن يكون كاذبا، أو صادقا، فإن كان كاذبا فهو يتحمل مغبة كذبه على ربه فى الدنيا والآخرة، وإن كان صادقا فأنتم حريون بالعقوبة على عصيانكم له وإقامتكم على ما أنتم عليه، فكيف إذا أزتم على ذلك قتله؟.

وما يزال هذا المؤمن يحاور ويداور ويلمح ويعرض حتى جهر ـ أخيرا ـ بما هو عليه من اتباع موسى واليمان به، وواجه طغيان فرعون القائل (مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ) [غافر: 29] الى قوله (َ يَقَوْمِ اتّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرّشَادِ) [غافر: 38] وحينئذ مكر به آل فرعون (فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ) [غافر: 45]

وهذه الحادثة الفردية التى عاشها مؤمن آل فرعون، عاشها جميع من المؤمنين الأولين بدعوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا يكتمون إيمانهم من قومهم ويستسرون به.

وقد فصل القول فى حكم هذه التقية السيد محمود شكرى الألوسى رحمه الله تعالى فقال: كل مؤمن وقع فى محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين، وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك، ويخفي دينه، ويتشبث بعذر الاستضعاف، فإن أرض الله واسعة".

نعم إن كان له ممن له عذر شرعى فى ترك الهجرة كالصبيان، والنساء، والعميان، والمحبوسين، والذين يخوفهم بالقتل، أو قتل الأولاد، أو الآباء، أو أمهات، تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا غالبا، سواء كان هذا القتل بضرب العنق، أو بحبس القوت، أو بنحو ذلك، فإنه يجوز له المكث مع المخالف، والموافقة بقدر الضرورة، ويجب عليه أن يسعى فى الحلية للخروج والفراربدينه.

وإن كان التخويف بفوات المنفعة، أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها، كالحبس مع القوت، والضرب القليل غير المهلك، فإنه لايجوز له موافقتهم.

فعلى هذا يجوز للمسلم أن يكتم إسلامه اذا كان مقيما فى محل لا يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يستطيع الخروج أو الهجرة من هذا المحل، أو لا يجد مكانا يهاجر اليه ويأمن فيه على دينه، ويخشى لو جهر بدينه من الفتنة أو القتل، أو إلحاق الضرر البالغ به، أو بأقاربه، أو بمن يلوذ به.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015