ومن هذا ـ وغيره ـ يتضح أن المداراة هى التلطف فى المعاملة، ومحاذرة آثارة سخط الناس، بقصد جلب مصلحة شرعية، أو دفع مفسدة شرعية.

وقد تكون المداراة بالقول، كلين الكلام، وقد تكون بالفعل تفويت مصلحة شرعية_ وقد تصبح واجبة إذا ترتب على تركها مفسدة من ردة أو فسق، أو ظلم مسلم، أو نحو ذلك.

وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث عمرو بن تغلب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: أعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوما ومنع آخرين، فكأنهم عَتَبُوا عليه، فقال: (إني أعطي قوما أخاف ظلعهم وجزعهم، وَأَكِلُ أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغناء، منهم عمرو بن تغلب). فقال عمرو بن تغلب: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمر النعم.

(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رهطا وأنا جالس فيهم، قال: فترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم رجلا لم يعطه، وهو أعجبهم إلي، فقمت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فساررته، فقلت: مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنا؟ قال: (أو مسلما). قال فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنا؟ قال: (أو مسلما). قال: فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنا قال: (أو مسلما). يعني: فقال: (إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكب في النار على وجهه).

ومن الظاهر ان النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يكن ليمنع المال من هو أحق به وأولى من أهل السابقة الفقراء، ويعطيه من كان إلى وقت قريب حرباً على الإسلام، إلا لسببٍ يوجب ذلك، من تألف قلوبهم على الإسلام، وتثبيتهم عليه لئلا يرتدوا، ودفع أذاهم عن المسلمين، أو طعما في الإسلام من وراءهم من قومهم.

وَيُلْحَظُ فى المداراة أنها قد تكون في حالات ضعف المسلمين وخوفهم، وقد تكون في بداية مرحلة التمكين، وقد تكون في أثناء التمكين، والأمثلة السابقة توضح ذلك.

القسم الثانى من أقسام التقية (الكتمان والاستسرار):

هذا القسم من أولى الأقسام دخولا فى معنى التقية، ولكن لا يلزم من ذلك حصر معنى التقية فيه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015