قال الطيبي: أمر بالأخذ ليخيل أنه مرعوف (والرعاف هو النزيف من الأنف)، وليس هذا من الكذب، بل من المعاريض بالفعل، ورُخِّص له في ذلك لئلا يسوِّل له الشيطان عدم المضي استحياء من الناس ا. هـ " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (3/ 18).
وهذا من التورية الجائزة والإيهام المحمود رفعاً للحرج عنه، فيظن من يراه خارجاً بأنه أصيب برعاف في أنفه ...
وكذلك إذا واجه المرء المسلم ظروفاً صعبة محرجة يحتاج فيها أن يتكلم بخلاف الحقيقة لينقذ نفسه، أو ينقذ معصوماً، أو يخرج من حرج عظيم، أو يتخلص من موقف عصيب.
فهناك طريقة شرعية ومخرجٌ مباح يستطيع أن يستخدمه عند الحاجة ألا وهو " التورية " أو " المعاريض "، وقد بوَّب البخاري - رحمه الله - في صحيحه " باب المعاريض مندوحة عن الكذب " - صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب (116) -.
(وفيما يلي التوضيح بأمثلة من المعاريض التي استخدمها السلف والأئمة أوردها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه " إغاثة اللهفان ":
(ذُكر عن حماد رحمه الله أنه إذا أتاه من لا يريد الجلوس معه قال متوجعاً: ضرسي، ضرسي، فيتركه الثقيل الذي ليس بصحبته خير.
(وأحضر سفيان الثوري إلى مجلس الخليفة المهدي فاستحسنه، فأراد الخروج فقال الخليفة لا بد أن تجلس فحلف الثوري على أنه يعود فخرج وترك نعله عند الباب، وبعد قليل عاد فأخذ نعله وانصرف فسأل عنه الخليفة فقيل له إنه حلف أن يعود فعاد وأخذ نعله.
(أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن هانئ قال: كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي ومهنى فدق داق الباب وقال المروذي ها هنا فكان المروذي كره أن يعلم موضعه فوضع مهنى أصبعه في راحته وقال ليس المروذي ها هنا وما يصنع المروذي ها هنا فضحك أحمد ولم ينكر.
(ومن أمثلة التورية أيضاً:
لو سألك شخص هل رأيت فلاناً وأنت تخشى لو أخبرته أن يبطش به فتقول ما رأيته وأنت تقصد أنك لم تقطع رئته وهذا صحيح في اللغة العربية أو تنفي رؤيته وتقصد بقلبك زماناً أو مكاناً معيناً لم تره فيه، وكذلك لو استحلفك أن لا تكلم فلاناً: فقلت: والله لن أكلمه، وأنت تعني أي لا أجرحه لأن الكلم يأتي في اللغة بمعنى الجرح. وكذلك لو أرغم شخص على الكفر وقيل له اكفر بالله، فيجوز أن يقول كفرت باللاهي. يعني اللاعب. إغاثة اللهفان: ابن القيم 1/ 381 وما بعدها 2/ 106 - 107، وانظر بحثاً في المعاريض في الآداب الشرعية لابن مفلح 1/ 14.