والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشدَّ مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره، فهو سالم غانم لكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع المكاسب الفاخرة. والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأَرباح وشد أَحمال التجارات لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأَرباح تجاراتهم، فهو كرجل قد علم أَن أمامه بلدة يكسب الدرهم فيها عشرة إلى سبعمائة وأكثر، وعنده حاصل وله خبرة بطريق ذلك البلد وخبرة بالتجارة، فهو لو أَمكنه بيع ثيابه وكل ما يملك حتى يهيء به تجارة إِلى ذلك البلد لفعل، فهكذا حال السابق بالخيرات بإِذن ربه يرى خسراناً بيناً أن يمر عليه وقت في غير متجر.
مسألة: كيف يستقبل الظالم لنفسه يومه وليلته، وكيف يستقبلها المقتصد، وكيف يستقبلها السابق بالخيرات؟
(الظالم لنفسه إذا استقبل مرحلة يومه وليلته استقبلها، وقد سبقت حظوظه وشهواته إِلى قلبه فحركت جوارحه طالبة لها ساعية فيها، فإِذا زاحمها حقوق ربه فتارة وتارة فمرة يأْخذ بالرخصة ومرة بالعزيمة، ومرة يقدم على الذنب وترك الحق تهاوناً ووعداً بالتوبة. فهذا حال الظالم لنفسه مع حفظ التوحيد والإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والتصديق بالثواب والعقاب فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران وهو للأغلب منهما، فإِذا ورد القيامة ميز ربحه من خسرانه وحصل ربحه وحده وخسرانه وحده، وكان الحكم للراجح منهما، وحكم الله من وراءِ ذلك لا يعدم عباده منه فضله وعدله.
(وأما المقتصدون فأدوا وظيفة تلك المرحلة ولم يزيدوا عليها ولم ينقصوا منها، فلا حصلوا على أرباح التجار ولا بخسوا الحق الذي عليهم. فإذا استقبل أحدهم مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام والصلاة التامة في وقتها بأركانها وواجباتها وشرائطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذن الله له فيها مشتغلاً بها قائماً بأعيانها مؤدياً واجب الرب فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكار والتوجه، فإذا حضرت الفريضة الأُخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأول فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاءَ الليل فكذلك إلى حين النوم يأْخذ مضجعه حتى ينشق الفجر فيقوم إلى غذائه وظيفته فإذا جاء الصوم الواجب ويقوم بحقه، وكذلك الزكاة الواجبة والحج الواجب، وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط، لا يظلمهم ولا يترك حقه لهم.