(3) الخلاص من مخاصمة الخلق، فإِن منازعة الخلق دليل على فقره إِلى الأَمر الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إِلى حظ من الحظوظ ـ يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه ـ لا يطلق عليه اسم الغنى حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إِلى وليه وقيومه ومتولي تدبيره.
فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأَحكام الله تعالى ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ، استحق أَن يكون غنياً بتدبير مولاه مفوضاً إِليه لا يفتقر قلبه إِلى غيره ولا يسخط شيئاً من أَحكامه ولا يخاصم عباده إِلا في حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إِلى الله، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في استفتاح صلاة الليل في الحديث الآتي:
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه ومحاكمته خصمه إِلى أَمر الله وشرعه لا إِلى شيء سواه، فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه، وقد قالت عائشة: ((ما انتقم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفسه قط))، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمه إِلى غير الله ورسوله فقد حاكم إِلى الطاغوت، وقد أمر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما هو كذلك في نفس الأَمر.
(كيف يحصل غنى النفس:
مسألة: كيف يحصل غنى النفس:
يحصل غنى النفس باستقامتها على الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه، وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره، وإيمانا به، واحتسابا لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربا من ذمهم وازدرائهم، وطلبا للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله، والبعد عنه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق.