قلت: الاستغناءُ بالله هو عين الفقر إِليه، وهما عبارتان عن معنى واحد، لأَن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية كمال الافتقار إِليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به، فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أَحدهما على الآخر، وإِنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إِليه، فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى ((غنى)) بالنسبة إِلى فراغه عن الموجودات الفانية، و ((فقراً)) بالنسبة إِلى قصر همته وجمعها على الله [عز وجل]، فهي همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير غنى، وسفرها إِلى الله فقر، فإِذا وصلت إِليه استغنت به بكمال فقرها إِليه، إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول، وإِنما يكمل فقرها بهذا الوصول.
(كل حي سوى الله فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
اعلم أَن كل حي سوى الله فهو فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحى من جنس النعيم، واللذة والمضرة من جنس الأَلم والعذاب. فلابد من أَمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويتلذذ به، والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه.