وإن كانت صدقة وكان يعطيه لدينه فلينظر إلى باطنه فإن كان مقارفاً لمعصية في السر يعلم أن المعطي لو علم ذلك لنفر طبعه ولما تقرب إلى الله بالتصدق عليه فهذا حرام أخذه كما لو أعطاه لظنه أنه عالم أو علوي ولم يكن فإن أخذه حرام محض لا شبهة فيه.
الثالث: أن يكون غرضه السمعة والرياء والشهرة فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد ولا يقبله إذ يكون معيناً له على غرضه الفاسد.
وكان سفيان الثوري يرد ما يعطي ويقول: لو علمت أنهم لا يذكرون ذلك افتخاراً به لأخذت وعوتب بعضهم في رد ما كان يأتيه من صلة فقال: إنما أراد صلتهم إشفاقاً عليهم ونصحاً لهم لأنهم يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم.
(وأما غرضه في الأخذ فينبغي أن ينظر: أهو محتاج إليه فيما لا بد منه أو هو مستغن عنه فإن كان محتاجاً إليه وقد سلم من الشبهة والآفات التي ذكرناها في المعطي فالأفضل له الأخذ كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيني العطاءَ، فأقولُ أعطهِ من هو أفقر مني فقال: (خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ، وأنت غير مشرفٍ ولا سائل، فخُذهُ، وما لا، فلا تُتْبعِه نفسك)
وقال بعض العلماء: من أعطي ولم يأخذ سأل ولم يعطَ.
وقد كان سري السقطي يوصل إلى أحمد بن حنبل رحمة الله عليهما شيئاً فرده مرة فقال له السري: يا أحمد احذر آفة الرد فإنها أشد من آفة الأخذ فقال له أحمد: أعد علي ما قلت! فأعاده فقال أحمد: ما رددت عليك إلا لأن عندي قوت شهر فاحبسه لي عندك فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلي.
وقد قال بعض العلماء: يخاف في الرد مع الحاجة عقوبة من ابتلاء بطمع أو دخول في شبهة أو غيره فأما إذا كان ما أتاه زائداً على حاجته فلا يخلو: إما أن يكون حاله الاشتغال بنفسه أو التكفل بأمور الفقراء والإنفاق عليهم لما في طبعه من الرفق والسخاء فإن كان مشغولاً بنفسه فلا وجه لأخذه وإمساكه إن كان طالباً طريق الآخرة فإن ذلك محض إتباع الهوى وكل عمل ليس لله فهو سبيل الشيطان أو داعٍ إليه ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ثم له مقامان: أحدهما أن يأخذ في العلانية ويرد في السر أو يأخذ في العلانية ويفرق في السر وهذا مقام الصديقين وهو شاق على النفس لا يطيقه إلا من اطمأنت نفسه بالرياضة.