وقوله: ((البراءَة من رؤية الملكة)) ولم يقل من الملكة لأن الإِنسان قد يكون فقيراً لا ملكة له في الظاهر وهو عرى عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أَهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذي الملك والملكوت، وقد يكون العبد قد فوض إِليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه، كما كان سليمان بن داود أُوتى ملكاً لا ينبغي لأَحد من بعده، وكذلك الخليل وشعيب والأَغنياءُ من الأَنبياءِ، عليهم الصلاة والسلام وكذلك أَغنياءُ الصحابة، «فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة في الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم» فلا يرون لها ملكاً حقيقياً، بل يرون ما في أَيديهم لله عارية ووديعة في أَيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبيد أَو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم.
(بيان فضيلة الفقر:
قال تعالى: (لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) [الحشر: 8]
و قال تعالى: (لِلْفُقَرَآءِ الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ) [البقرة: 273]
ساق الكلام في معرض المدح ثم قدم وصفه بالفقر على وصفهم بالهجرة والإحصار وفيه دلالة ظاهرة على مدح الفقير.
وأما الأخبار في مدح الفقر فأكثر من أن تحصى: منها ما يلي:
(حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (قد أفلح من أسلم و رُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه)
فالأول القانع وهذا الراضي ويكاد يشعر هذا بمفهومه: أن الحريص لا ثواب له على فقره ولكن العمومات الواردة في فضل الفقر تدل على أن له ثواباً، فلعل المراد بعدم الرضا هو الكراهة لفعل الله في حبس الدنيا عنه ورب راغبٍ في المال لا يخطر بقلبه إنكار على الله تعالى ولا كراهة في فعله فتلك الكراهة هي التي تحبط ثواب الفقر.
ولعل أبرز أدلة النقل الصحيح الصريح الدال على فضل الفقر الحديثين الآتيين:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا.
قوتاً: أي شيءٌ يسدُ الرمق.
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا)
وأما الآثار في الرضا والقناعة فكثيرة ولا يخفى أن القناعة يضادها الطمع.