لا ريب أن للشهوات سلطاناً على النفوس، واستيلاءً وتمكناً في القلوب؛ فتركها عزيز، والخلاص منها شاق عسير، ولكن من اتقى الله كفاه، ومن استعان به أعانه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

وكلما ازدادت الرغبة في المحرم، وتاقت النفس إلى فعله، وكثرت الدواعي إلى الوقوع فيه عظم الأجر في تركه، وتضاعفت المثوبة في مجاهدة النفس على الخلاص منه.

وإنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله.

وأما من تركها مخلصاً لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا أول وهلة؛ ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب؛ فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة، فمن ذاق طعم الاستقامة فلن يبغى بها بدلاً، ولا عنها حولاً.

ألا ترى إلى الصبي الذي اعتاد ثدي أمه كيف سكوتُه بذلك الثدي، وكيف حنينه إليه إذا فقده، وكيف فرحه به إذا هو وجده؟

فكذلك النفس الشهوانية؛ فإذا فطم الصبي انفطم حتى لا يلتفت إلى الثدي بعد ذلك؛ لأنه وجد طعم ألوان الأطعمة؛ فلا يحن إلى لبن أمه.

وكذلك النفس إذا وجدت لذة العبادة، وذاقت طعم الإيمان، وبرد اليقين، واستشعرت رَوْح قرب الله، وجميل نظره_لم تَحنَّ إلى تلك الشهوات (?).

من ذاق طعم نعيم القوم يدريه ... ومن دراه غدا بالروح يشريه

وكل هذا محسوس مجرب، وإنما يقع غلط أكثر الناس أنه قد أحس بظاهر من لذات أهل الفجور وذاقها، ولم يذق لذات أهل البر، ولم يخبرها (?).

ثم إن من ترك لله شيئاً عوَّضه الله خيراً منه، والعوضُ من الله أنواع مختلفة، وأجل ما يُعَوَّض به الإنسان أن يأنس بالله، وأن يرزق محبته عز وجل وطمأنينة القلب بذكره، ورضاه عن ربه تبارك وتعالى مع ما يلقاه من جزاء في هذه الدنيا، وما ينتظره من الجزاء الأوفى في العقبى (?).

وفيما يلي ذكر لنماذج تؤكد هذا المعنى.

أولاً: نماذج لأمور من تركها لله عوضه الله خيراًً منها:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015