كذلك تخرج العبد من دائرة الإحسان، وتمنعه ثواب المحسنين، وتضعف سير قلبه إلى الله والدار الآخرة، وتصغر نفسه، وتُعمي قلبه، وتسقط منزلته، وتسلبه أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذل والصغار، وتجعله من السفلة بعد أن كان مُهيَّأً لأن يكون من العلية، وتجرىء عليه شياطين الجن والإنس، فيصير في أسرهم بعد أن كانوا يخافونه ويرهبونه.

ومنها وقوع العاصي في بئر الحسرات؛ فلا يزال في حسرة دائمة؛ فكلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطراً، أو إلى غيرها إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعافُ أضعاف ما يقدر عليه، وكلما اشتد نزوعُه وعرف عجزَه اشتدت حسرتُه وحزنُه؛ فيا لها ناراً قد عُذِّب بها القلبُ في هذه الدار قبل نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.

ومنها ضياع أعز الأشياء وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض عنه، ولا يعود إليه أبداً.

وبالجملة فالآثار القبيحة للمعاصي أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً؛ فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصية الله (?).

(18) الحياء:

فهذا الخلق إذا غَزر في النفس، ونمت عروقه فيها ازداد رونقها صفاءً، ونفض على ظاهر صاحبها مآثر خَيْراتٍ حِسان، وإذا انتُزع من شخص فقد فقَدَ المروءة، وثكل الديانةَ التي هي الجناح المبلغ لكل كمال؛ ذلك أن الحياء خلق يبعث على فعل الجميل وترك القبيح، وهو عبارة عن انقباض النفس عما تذم عليه، وثمرته ارتداعها عما تنزع إليه الشهوة من القبائح.

فإذا تمزق ستر هذه الفضيلة بغلبة الشهوة على النفس اختلت هيئة الإنسان بالضرورة، وبقي صاحبها سائماً في مراتع البغي والفسوق، وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان.

وبالجملة فالحياء شعبةٌ من الإيمان، والحياء لا يأتي إلا بخير، والحياء خلق الإسلام.

وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرَّ على رجلٍ وهو يعظُ أخاه في الحياء فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْه فإن الحياء من الإيمان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015