وهذا كلامٌ حسنٌ غايةً، وأكثر الناس لا يرون الأشياء بعينها؛ فإنهم يرون الفاني كأنه باقٍ، ولا يكادون يتخايلون زوال ما هم فيه وإن علموا ذلك إلا أن عين الحس مشغولة بالنظر الحاضر؛ ألا ترى زوال اللذة وبقاء إثمها؟ (?).
(وقال أيضاً: إنما فَضُل العقلُ بتأمل العواقب؛ فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة، ولا ينظر إلى عاقبتها؛ فإن اللص يرى أخذ المال، وينسى قطع اليد، والبطَّال يرى لذة الراحة، وينسى ما تجني من فوات العلم، وكسب المال؛ فإذا كبر فسئل عن علم لم يدرِ، وإذا احتاج سأل فذلَّ؛ فقد أربى ما حصل له من التأسف على لذة البطالة، ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا.
وكذلك شارب الخمر يلتذ تلك الساعة، وينسى ما يجني من الآفات في الدنيا والآخرة.
وكذلك الزنا؛ فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة، وينسى ما يجني من فضيحة الدنيا والحد، وربما كان للمرأة زوج، فألحقت الحمل من هذا به، وتسلسل الأمر.
فقس على هذه النبذة، وانتبه للعواقب، ولا تؤثر لذة تفوِّت خيراً كثيراً، وصابر المشقة تُحصِّل ربحاً وآفراً (?).
قال الحسين بن مطير:
ونفسك أكر م عن أمور كثيرة ... فما لك نفسٌ بعدها تستعيرها
ولا تقرب الأمر الحرام فإنما ... حلاوته تفنى ويبقى مريرها (?)
وكان سفيان الثوري رحمه الله تعالى يتمثل بهذين البيتين:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار (?)
وقال اليزيدي: دخلت على هارون الرشيد، فوجدته مُكبَّاً على ورقة ينظر فيها مكتوبة بالذهب، فلما رآني تبسم، فقلت: فائدة أصلح الله أمير المؤمنين، قال: نعم، وجدتُ هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية، فاستحسنتهما، فأضفت إليهما ثالثاً فقال ثم أنشدني:
إذا سُدَّ بابٌ عنك من دون حاجة ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابها
فإن قُرابَ البطن يكفيك ملأه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها
فلا تك مبذالاً لدينك واجتنب ... ركوب المعاصي يجتنبك عقابها (?)
هذا وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى فيما بعد.
(13) هجر العوائد: