وهل الأدب المكشوف إلا سوءة من سوءات الفكر؟ حتى إن الخمر التي لا ينازع في مفسدتها إلا من غرق بسكرة الجهل والغواية وجَدتْ من يصفها بأبدع الأوصاف؛ فكثير من الشعراء قد طغى به الإبداع في المقال إلى أن نسقوا في مديحها صفات الخيال، وضربوا للتنويه بشأنها الأمثال، فاستهووا لمعاقرتها عبيد الخيال، والشعراء يتبعهم الغاوون.
وبالجملة فإن مثلَ النفوس بما جبلت عليه من ميل للشهوات، وما أودع فيها من غرائز تميل مع الهوى حيثما مال كمثل البارود، والوقود، وسائر المواد القابلة للاشتعال؛ فإن هذه المواد وما جرى مجراها متى كانت بعيدة عما يُشْعل فتيلها، ويذكي أوارها بقيت ساكنة لا يخشى خطرها، والعكس بالعكس.
وكذلك النفوس؛ فإنها تظل ساكنة وادعة هادئة، فإذا اقتربت مما يثيرها، ويحرك نوازعها إلى الشرور من مسموع، أو مشموم أو منظور ثارت كوامنها، وهاجت شرورها، وتحرك داؤها، وطغت أهواؤها.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
لا تلم مَنْ عَرَّض النفس لما ... ليس يرضي غيره عند المحن
لا تقرِّبْ عرفجاً من لهب ... ومتى قربته قامت دُخن (?)
وقال:
لا تُتْبِع النفسَ الهوى ... ودع التعرض للمحن
إبليسُ حيٌّ لم يمت ... والعين بابٌ للفتن (?)
(9) غض البصر:
فالعين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب، وغض البصر يورث الراحة؛ فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته، وهذا معلومٌ على وجه اليقين لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) [النور: 30]
[*] (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفوس.
وزكاةُ النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك (?).
[*] (وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ووقعت مسألةٌ: ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة نظرة فعلق حبُّها بقلبه، واشتد عليه الأمر، فقالت له نفسه: هذا كله من أول نظرة فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك فسلوت عنها؛ فهل يجوز تعمُّد النظر ثانياً لهذا المعنى؟
فكان الجواب: الحمد لله، لا يجوز هذا لعشرة أوجه: