وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يطاق؛ فلا خير فيمن لا مروءة له، لا يطلب أخذ ثأره من أعدى عدوٍّ له؛ فما شيء أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدوَّ أعدى له من الشيطان؛ فإن كان له قلب من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جد في أخذ الثأر، وغاظ عدوه كل الغيظ وأضناه، حتى يقول الشيطان يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه؛ فيندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتان ما بين الندمين.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: إن المؤمن لَيُنْضِي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره (?).
والله عز وجل يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظَه.
وهذه العبودية من أسرار التوبة؛ فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة، والتدارك، وحصول محبوب الله من التوبة وما يتبعها من زيادة الأعمال ما يوجب جعلَ مكانِ السيئةِ حسنةً، بل حسنات.
(ومن أسرار التوبة: معرفة الشر وحذر الوقوع فيه: فالذي يقع في الذنب يصير كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم؛ فالطبيب الذي عرف المرض مباشرة، وعرف دواءه وعلاجه_أحذق وأخبر من الطبيب الذي عرف الداء وصفاً فحسب.
هذا في أمراض الأبدان، وكذلك أمراض القلوب وأدواؤها.
ولذلك كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعرف الأمة بالإسلام، وتفاصيله، وأبوابه، وطرقه، وأشد الناس رغبةً فيه، ومحبة له، وجهاداً لأعدائه؛ لعلمهم بضده.
فإذا عرف العبد الضدين، وعلم مباينة الطرفين، وعرف أسباب الهلاك على التفصيل كان أحرى أن تدوم له النعمة، ما لم يُؤْثرْ أسباب زوالها، وفي مثل هذا قال القائل:
عَرِفتُ الشرَ لا للشرِ ... ولكن لِتَوَقِيه
ومن لا يعرفُ الشرَ ... من الناسِ يقع فيه
وهذه حال المؤمن يكون فطناً، حاذقاً، أعرف الناس بالشر، وأبعدهم عنه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته، وعرفت طويَّته رأيته من أبر الناس.
والمقصود أن من بلي بالآفات صار أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه، وعلى من استنصحه، ومن لم يستنصحه.
(ومن أسرار التوبة: ابتلاء العبد بالإعراض عنه: فالله عز وجل يذيق عبده ألم الحجاب عنه، وزوال ذلك الأنس به، والقرب منه؛ ليمتحن عبده، فإن أقام العبد على الرضا والحال، ولم يجد نفسه تطالبه بحالها الأول مع الله، بل اطمأنت، وسكنت إلى غيره علم أنه لا يصلح، فوضعه في مرتبته التي تليق به،