حكي عن ثعلب أنه كان لا يفارقه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوة ـ أي: دعوة طعام ـ شرط عليه أن يوسع له مقدار مسورة، والمسورة هي المتكأ من الجلد، يعني: مثل الوسادة من جلد تتسع لشخص. فكان يشترط على بعضهم إذا دعاه إلى طعام أو وليمة أن يوسع له في الوليمة مقدار مسورة يضع فيه كتاباً ويقرأ. أي: في أثناء حضورة في الوليمة يضع في هذا المكان الذي يحجزه له كتاباً ويقرأ فيه، وقد يحتمل أن تكون هذه القراءة أثناء الأكل، ويحتمل أنها قبل الأكل أو بعده. وإننا لنرى اليوم أن الولائم تضيع فيها ساعات طوال، وأهل بعض البلاد نجد أن كرم الضيافة عندهم يقتضي إهدار الوقت بصورة تدمي القلب، فأول شيء أنهم يجلسون ويتجمعون، وقد يستغرق ذلك ـ مثلاًً ـ نصف ساعة، والمواعيد ليس فيها دقة، ثم بعد ذلك يبدأ تبخير الحاضرين بالبخور، ثم بعد ذلك يؤتى بنوع معين من القهوة فاتح للشهية، ثم بعد ذلك يقدمون التمر مع هذه القهوة، ثم بعد ذلك يقدم الطعام، ثم بعد ذلك تقدم الفواكه، وهكذا الشاي، وإنه لشيء مؤلم جداً أن يضيع هذا الوقت، ويكون ـ أيضاً ـ طلبة علم يجودون بأوقاتهم بهذه الصورة، فهذا شيء لا يكاد يصدق! فالشاهد أن الإمام ثعلب رحمه الله تعالى كان إذا حضر دعوة اشترط خوفاً من ضياع الوقت بهذه الصورة أن يُحجز بجانبه مكان بقدر متكأ من الجلد، حتى يضع عليه كتاباً ويظل يقرأ في أثناء هذه الوليمة، فهل سمعنا حرصاً على العلم أشد من هذا الحرص؟! وكان سبب وفاة ثعلب أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر، وكان قد لحقه صمم، فلا يسمع إلا بعد تعب، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق، فصدمته فرس فألقته في هوة، فأخرج منها وهو كالمختلط، فحمل إلى منزله على تلك الحال، وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم رحمه الله تعالى.
[*] • ابن عقيل الحنبلي:
الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي المتوفى سنة (513هـ)
[*] • قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إنه من أذكياء العالم.