آه! لو رأيت تلك الجموع التي توافدت من كل صوب لتحضر الصلاة والدفن على شيخنا الجليل ... . وجوه واجمة حزينة تتعجل وصولها إلى الحرم منذ وقت مبكر ... .. غص الحرم على غير عادته في مثل هذا الوقت فالصلاة صلاة عصر وليس موسم إجازة، بل هو موسم اختبارات ومع ذلك فقد كنت تشعر أن المسجد الحرام قد امتلأ بالمصلين ... وتتيقن تماما حينما تجد الأعناق تشرئب لتنظر إلى ذلك المسجى أَمام الإمام، فقد وضعت الجنازة منذ الساعة الثالثة تقريباً تحت حراسة مكثفة - وليس لهم سبيل أن يضعوها إلا في ذلك الوقت فقد كان الحرم يغص غصّاً بالناس - وما عدت ترى في الصحن إلا شباباً، وتوقفت حركة المطاف نهائيّاً، وما أن انتهت صلاة العصر وتقدم بالجنازة ليصلي عليها إمام الحرم - حفظه الله - ونادى المنادي " الصلاة على الأموات يرحمكم الله " حتى تحس كأن القلوب انخلعت من أماكنها، وسرى خشوع عجيب، وصمت رهيب، لا تكاد ترى أحداً لم يقم ولم يصل ... فقد كان الحديث عن الجنازة يملأ أرجاء الحرم قبل الأذان وبعده.
وصُلِّي عليه رحمه الله تعالى، وما أن فرغ الإمام من الصلاة عليه حتى تسابقت الجموع لحمله ... .. أنى لك يا " نور " - كاتب المقال - أن تصل إليه فتحمله، [هناك] مئاتٌ كلٌّ يريد حمل ذلك الجثمان رحمة الله تعالى عليه، وانطُلق به إلى مقبرة " العدل " بسيارة إسعاف من طريق خاص حيث قد أغلقت الطرق ولا تستطيع أن تصل إلى المقبرة إلا عن طريق طويل، والجموع قد سبقت بالسيارات، وجموع منتظرة في المقبرة، لفيف عظيم من كل المستويات: علماء، وطلبة علم، وعوام، غصت بهم مقبرة " العدل " بمكة المكرمة، وازدحمت الشوارع المحيطة بالمقبرة بسياراتهم ولك أن تتخيل ذلك الجو الكئيب الذي سيطر على الجميع، فلا تكاد تسمع إلا " أحسن الله عزاءنا في شيخنا، وعوض الأمة خيراً في فقده ".
حفر له قبره، ولحُِّد، وأهيل التراب عليه رحمة الله تعالى عليه، ولم تستطع قوات الطوارئ الكثيفة المتواجدة بالمقبرة أن تمنع الشباب [من] أن يصلوا إلى قبر الشيخ، فقد غلبتهم كثرة الناس فما عاد لهم إلا أن يقفوا مع الواقفين، ووقفت تلك الجموع في رهبة عظيمة ترفع أيديها لمولاها أن يسبغ على الشيخ واسع رحمته وأن يسكنه فسيح جنته، فلم تعد تسمع إلا همهمة دعاء وابتهال متضرع وسؤال خاشع يسألون له الرحمة.
وما انتهت مراسم الدفن إلا في الساعة الخامسة والنصف عصراً من زحمة الناس.