(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ) ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم (أُمَّةً وَسَطاً): خياراً، وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء؛ ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ونحوه: قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنطوا الثبجة" يريد الوسيطة بين السمينة والعجفاء؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومثل ذلك الجعل العجيب)، يريد أن الكاف منصوب المحل على المصدر، وأن معنى المثل الذي يعطيه الكاف هو الصفة والحالة لا النظير والشبيه، والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله تعالى: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وهو الأمر العجيب الشأن، وذلك أنهم لما طعنوا بقوله: (مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ) جيء بقوله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) جواباً له، وجعل (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) توطئة للجواب، قالوا: أي شيء ولاهم عن قبلتهم؟ فأجيبوا: هداية الله اختصتهم بهذه التولية ومنحتهم الصراط المستقيم، وهو نظير قوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) [النور: 35]، فعلم من قوله: (مَنْ يَشَاءُ) تعظيم المسلمين، وأنهم المختصون بهذا الفضل دون سائر الناس، ومن قوله: (صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) تعظيم التوجيه إلى القِبلة وأنه هو النور، وهو الصراط المستقيم، يعني: كما جعلناكم في الدنيا أفضل الأمم وقبلتكم أفضل القبل جعلناكم في الآخرة شهداء على الناس تشهدون كما تشهد الأنبياء على أممهم، هذا هو الجعل العجيب الشأن، ويجوز أن يكون قوله: (قُل لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) جواباً و (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) استئنافاً لبيان الموجب، وذلك أن الإضافة في قولهم: (مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ) بمعنى اللام، ولهذا طابقه اللام في قوله: (لِلَّهِ)، أي: أي داعية دعتهم على التولي عن القِبلة التي استقبلوها من تلقاء أنفسهم، ومتابعة أهوائهم؟ فأجيب بأن ليس ذلك اختصاصاً من قِبل أنفسهم، بل كل الجهات لله عز وجل، فهو يهدي من يشاء إلى الجهة التي أرادها تعالى.
قوله: (وأنطوا الثبجة)، النهاية: الإنطاء: الإعطاء بلغة اليمن، أي: أعطوا الوسط في الصدقة لا من خيار المال ولا من رذالته، ولحقها تاء التأنيث لانتقالها من الاسمية إلى الوصفية.