قَصَدَ بنفْي عِلْمِه بإلهٍ غيرِه: نفيَ وجودهِ، معناه: ما لكم من إلهٍ غيري، كما قال عزّ وجلّ: {قَلْ أَتُنَبِئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} [يونس: 18] معناه: بما ليسَ فيهنَّ، وذلك لأنَّ العلمَ تابعٌ للمعلومِ لا يتعلّق به إلا على ما هو عليه، فإذا كان الشّيءُ معدومًا لم يتعلَّقْ به موجودًا، فمن ثمَّ كان انتفاءُ العلمِ بوُجودِه لانتفاءِ وجودِه. وعُبِّرَ عنِ انتفاءِ وُجودِه بانتِفاءِ العلمِ بوُجودِه. ويجوزُ أن يكونَ على ظاهرِه، وأنَّ إلهًا غيرَه غيرُ معلومٍ عندَه، ولكنَّه مظنونٌ بدليلِ قولِه: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ, مِنَ أَلْكَاذِبِينَ}، وإذا ظنَّ موسى عليه السَّلامُ كاذبًا في إثباتِه إلهًا غيرَه ولم يعلَمْهُ كاذبًا، فقد ظنَّ أنَّ في الوُجودِ إلهًا غيرَه، ولو يكُنِ المَخذُولُ ظانًّا ظنًّا كاليَقِين؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (قَصَدَ بنفي علمِهِ بإلهٍ غيرِه: نفيَ وجودِه)، الانتصاف: وَهِمَ فيهِ الزمخشري؛ لأنّ الله عبَّرَ عنْ نفيِ المعلومِ بنفيِ العلم في قولِه: {أَتُنَبِئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ} [يونس: 18]؛ فظنّ أَنّ سِرّ التعبيرِ شاملٌ لكلِّ تعلُّقٍ بالمعلوم، وليسَ كذلك؛ بلْ هذا التعبيرُ لا يكونُ إلا في علمِ الله؛ لعمومِ تعلُّقِهِ بجميع المعلومات؛ حتى لا يعزُبُ عنهُ مِثقالُ ذَرّة، وعِلْمُ المخلوقينَ ليستْ لهُ هذهِ الدرجة.
وقلتُ: إنّ فِرعونَ كانَ يدّعي الإلهية؛ فعامَلَ بعِلْمِهِ معامَلَةَ عِلْمِ الله؛ ومِنْ ثَمّ طغى وتكبّرَ وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، وقال: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ}، ولمْ يَقُلْ: اطبخْ لي الآجُر؛ تعاظُمًا، كما قالَ مَنْ لَهُ العظَمةُ حقيقةً: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلْنَّارِ} [الرعد: 17]. ومِنْ تعاظُمِهِ نداؤُهُ لوزيرِهِ باسمِهِ وبحرفِ النداء، وتوسيطِ ندائِهِ خلالَ الأمر.
قولُه: (ويجوزُ أنْ يكونَ على ظاهرِه)، يعني أنّ قولَه: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إلَهٍ} واردٌ على الشكِّ وإجرائِهِ مَجْرى سائرِ علوم الخلقِ في أنُهُ لا يلزمُ مِنْ نفيِ تعلُّقِهِ بوجودِ أمرٍ نفيُ ذلكَ الأمر؛ فهوَ أحقرُ مِنْ ذلك، ويؤيِّدُهُ استعمالُهُ ((لعلّ)) والظنّ. ويمكنُ أنْ يُقال: إنّ الظاهرَ أنّ كلامَه الأوّلَ كانَ تمويهًا وتلبيسًا على القوم، والثاني مُواضَعةٌ معَ صاحبِ سِرِّهِ هامان؛ فإثباتُ الظنِّ في الثاني لا يَدفَعُ أنْ يكونَ نفيُ العِلمِ في الأوّلِ لنفيِ المعلوم.