بالبُرهان؛ ألا تَرى إلى قولِه: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}، وفضلُ الفصاحةِ إنَّما يُحتاجُ إليه لذلك، لا لقولِه: صدقتَ؛ فإنَّ سَحْبانَ وباقلاً يستَوِيانِ فيه-، أو يَصلَ جناحَ كلامِه بالبيان، حتّى يُصدِّقَه الذي يَخافُ تكذيبَه، فأُسنِدَ التَّصديقُ إلى هرونَ؛ لأنَّه السببُ فيه إسنادًا مجازيًّا. ومعنى الإسنادِ المجازيِّ: أنَّ التَّصديقَ حقيقةٌ في المُصدِّقِ، فإسنادُه إليه حقيقةٌ، وليس في السَّببِ تصديقٌ، ولكنِ استُعِيرَ له الإسنادُ؛ لابَسَ التَّصديقَ بالتَّسَبُّبِ كما لابَسَهُ الفاعِلُ بالمُباشَرةِ. والدَّليلُ على هذا الوجهِ قولُه: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} وقراءة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (ويصلَ جَناحَ كلامِهِ بالبيان)، شَبّهَ الكلامَ الماضي بالسّهْمِ المُرْسَل، فإذا وصلَ السّهْمُ بالجَناح؛ قَصَدَ الرّمِيّةَ فلا يلتوِي عندَها، كَذلكَ الكلامُ إذا بُيَنِّ وزِيدَ في بُرْهانِه؛ تَمَكّنَ عندَ السامعِ وأخذَ بمجامعِ قلبِه. والفرقُ بينَ هذا الوجهِ هوَ أنّ هارونَ في الأَوّلِ كانَ ناقلاً لكلامِ موسى عليهما السلامُ ومؤدِّيًا على وجهٍ أبْيَنَ وأكْشَف؛ فمعنى {يُصَدِّقُنِي}: يُلخِّصُ كلامي، فإنّ الكلامَ المُلَخّصَ مؤثِّر؛ فكأنّهُ يُصدِّقُهُ فيما ادّعاه، والمعنى على الثاني: يؤيّدُ كلامي بالبرهانِ والبيان؛ فيصدِّقني قومي بسَبَبِه. فالمصدِّقُ على الأوّلِ هارون، وعلى الثاني القوم. والأوّلُ مِنْ إطلاقِ المُسَبِّبِ على السّبَب، والثاني مِنَ الإسنادِ المجازي.
قولُه: (ومعنى الإسناد المجازي)، يعني: أنّ التصديقَ حقيقةٌ في القوم وهُمُ الذينَ يباشرونَهُ بأنفسِهم؛ فإسنادُ الفعلِ إليهم حقيقة، وليس في هارون تصديق؛ ولكنْ لمّا كانَ السببَ في التصديقِ استُعيرَ الإسنادُ له، ونحوُه: بني الأميرُ المدينة؛ والأميرُ إنما أمرَ بالبناء، فأسندَ إلى الحاملِ كما أسندَ إلى المباشر.
قولُه: (والدليل على هذا الوجه قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ})، لأنّ التقدير: أرسلْهُ