وقالوا: استقِ بها، وكانتْ لا ينزِعُها إلاّ أربعون، فاستقى بها وصبَّها في الحوضِ ودعا بالبَرَكة، وروّى عنهما وأصدَرَهما. ورُويَ أنّه دفَعَهُم عنِ الماءِ حتّى سقي لهما. وقيل: كانتْ بئرًا أُخرى عليها الصَّخْرة. وإنّما فعل هذا رغبةً في المعروفِ وإغاثةً للملهوف. والمعنى: أنّه وصلَ إلى ذلكَ الماءِ وقد ازدحَمتْ عليه أُمّةٌ من أناسٍ مختلفةٍ متكاثفةِ العَدَد، ورأى الضَّعِيفَتَيْنِ من ورائِهم مع غُنَيمتِهِما مُتَوقِّفَتَينِ لِفَراغِهم، فما أخْطَأَت همَّتُه في دينِ الله تلكَ الفُرصة، معَ ما كانَ من النَّصَبِ وسقوطِ خُفِّ القَدَمِ والجُوع، ولكنَّه رحِمَهُما فأغاثَهُما، وكفاهُما أمرَ السَّقْيِ في مثلِ تلك الزَّحمةِ بقُوَّةِ قلبِه وقوَّةِ ساعِدِه، وما آتاهُ الله من الفضلِ في متانةِ الفطرةِ ورصانةِ الجِبِلَّة، وفيه- مع إرادةِ اقتصاصِ أمره، وما أوتِيَ من البَطْشِ والقُوّةِ، وما لم يَغفُلْ عنه، على ما كانَ به من انتهازِ فُرصةِ الاحتساب- ترغيبٌ في الخير، وانتهازِ فُرَصِه، وبعثٌ على الاقتداءِ في ذلك بالصّالِحِين، والأخذِ بِسَيرِهِم ومذاهِبِهم. فإن قلتَ: لمَ تُرِكَ المَفعولُ غيرَ المَفعولُ غيرَ مَذْكُورٍ في قولِه: {يَسْقُونَ} و {تَذُودَانِ} و {لاَ نَسْقِي}؟ قلت: لأنَّ الغرضَ هو الفعلُ لا المفعول. ألا ترى أنّه إنّما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (فما أخطأَتْ هِمّتُه)، أي: ما تجاوَزَتْ. الأساس: ومِنَ المجاز: تَخَطّاهُ المكروه.
قولُه: (تلكَ الفرصة)، الجوهري: الفُرصةُ هِيَ الشِّرْبُ والنّوْبة؛ يُقال: وَجَدَ فلانٌ فُرصة؛ أي نُهْزة، وانتَهَزَها إذا اغتَنَمَها.
قولُه: (وفيه)، خبر، والمبتدأُ ((ترغيب))، و ((ما أوتي)) عطفٌ تفسيريٌّ على ((أمره))، و ((ما لمْ يَغفُلْ عنه)) عطفٌ على ((البطش والقوة))، وهوَ عبارةٌ عنِ الجزمِ البليغ والتيقُّظِ التام؛ ولذلكَ أوقعَ ((على ما كانَ بهِ)) حالاً مِن فاعلٍ لمْ يفعلْ على وجهِ التتميم والمبالَغة؛ أي على ما كانَ بهِ مِنَ النّصَبِ وسقوطِ الخوفِ والجوع. و ((من)) - في ((مِن انتهازِ الفُرصة)) - بيانُ ((ما لمْ يَغفُلْ عنه))، المعنى: أَدْمَجَ في هذا الكلامِ- معَ اقتصاصِ أمرِ موسى عليه السلام مِنَ القُوّةِ والتيقُّظِ في تلكَ الحالةِ- ترغيبَ المؤمِنينَ في الخير، وانتهازَ الفُرصةِ فيه، والبعثَ على الاقتداءِ بسُنّةِ الصالحِينَ مِنَ المرسَلِين. ويجوزُ أنْ يكونَ ((وما لمْ يَغفُلْ عنه)) عطفًا على ((ما أوتي)).
قولُه: (لأنّ الغرضَ هوَ الفعلُ لا المفعول)، فإنْ قلتَ: هلْ مِنْ فَرقٍ بينَ هذا وما ذهبَ