ضررها بسرابٍ لم يجده من خدعه من بعيدٍ شيئاً، ولم يكفه خيبةً وكمداً أن لم يجده شيئاً كغيره من السراب، حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار، ولا تقتل ظمأه بالماء. وشبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها، لكونها باطلةً، وفي خلوها عن نور الحق بظلماتٍ متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب، ثم قال: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه، فهو في ظلمة الباطل لا نور له.
وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات، لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل، أو كونهما مترقبين، ألا ترى إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوًى أو سقمٍ في البدن. يبرح: أي: يزول، يقال: برح برحاً: إذا زال من موضعه، ومنه: لا أبرح كذا أي: لا أزال.
قوله: (ومن لم يوله- أي: لم يعطه- نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في ظلمة الباطل)، يريد: أن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}، ظاهره: أن من لم يخلق الله تعالى فيه الإيمان والعمل الصالح ليس له إيمانٌ ولا عملٌ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، لأنه تذييلٌ لقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} إلى قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} إلى آخره. ولما لم يوافق مذهبه، عدل من التصريح إلى التلويح وقال: "ومن لم يوله نور توفيقه" فيكون المضاف إليه محذوفاً والجملة كما هي مع الحذف كنايةً عن عدم إيمانهم وعملهم الصالح، لأن الإلطاف لازم الإيمان، والعمل الصالح.
قوله: (أو كونهما مترقبين)، نصب عطفٍ على "الإيمان والعمل"، أي: الإلطاف إما أن يكون لازماً للإيمان والعمل الصالح أو لازماً لترقب حصولهما. وقال صاحب "التقريب": التقدير: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته فما له من نور: لا نور لطف التوفيق الذي يسبق الإيمان والعمل الصالح المترقبين، ولا نور العصمة الذي يردف ويلحق الإيمان والعمل الحاصلين. وقلت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 65] استشهادٌ لقوله: "إن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل"، لأن الهداية هي الدلالة، ولذلك فسره في موضعه بقوله: "لنزيدنهم هدايةً إلى سبيل الخير وتوفيقه، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا