عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه، فقبل أن ينطق السامري بادرهم هارون عليه السلام بقوله (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ)
(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه: 92 - 93].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلتُ: تفسيرُ المصنفِ أدخلُ في المعنى وأولى بالقبول؛ لأن الكلام واردٌ على توبيخ القوم وتقريعهم على الغباوة، وأن دليلي العقل والسمع تعاضدا على بطلان إلهية العجل، وأنهم ما التفتوا إليهما وما رفعوا لهما رأساً، وهذا إنما يستقيم على تقدير المصنف، والنظمُ أيضاً يساعد عليه، وذلك أنه تعالى لما حكى عن السامري أنه حين قال للقوم: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى) قبلوا منه (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة: 93] عقب ذلك بقوله: (أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) الآيات، تنبيهاً على غباوتهم، فأتى بهمزة الإنكار داخلةً على الفاء العاطفة المستدعيتين تقدير فعلٍ يصلُحُ أن يكون معطوفاً عليه لما بعد الفاء، وهو أن يقال: أحرموا العقل الهادي، فلا يتفكرون ولا ينظرون بنظر البصيرة أن هذا المتخذ نم هذه الأجرام لا يصلح للإلهية، أم عموا وصموا فلا يهتدون إلى أن الإله ينبغي أن يكون سامعاً لدعاء عابده، عالماً بأفعاله، دافعاً عنه المضار، مثيباً ومعاقباً، مع أن دليل السمع شاهدٌ ببطلانه، وهو تنبيهُ نبي الله هارون بقوله: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ) على سبيل التوكيد والحصر قد سبق على وقوعهم في تلك الفتنة، وأيضاً، في إيثار المضارع في قوله: (أَفَلا يَرَوْنَ)، وعطفِ (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ) عليه للدلالة على استحضار تلك الحالة الفظيعة في ذهن السامع واستدعاء الأفكار عليهم، ويجوز أن تكون الجملة القسمية حالاً من فاعل (يَرَوْنَ) مقررةً لجهة الإشكال، أي: (أَفَلا يَرَوْنَ) والحالُ أن هارون نبههم قبل ذلك ببطلانها، وأما جوابهم، وهو قوله: (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ) فمن باب الأسلوب الأحمق نقيض الأسلوب الحكيم؛ لأنهم قالوه عن قلة مبالاةٍ بالأدلة الظاهرة، كما قال نمرود في جواب الخليل: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة: 258]، وذكر القاضي الوجهين في "تفسيره".