وليبين أنّ ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته فقال (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) من الزلل، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها. ولا يخلو، إمّا أن يريد في هذه الحادثة، لما ذكرنا من الهمّ الذي هو ميل النفس عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق القصد والعزم. وإمّا أن يريد به عموم الأحوال (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أراد الجنس، أي: إنّ هذا الجنس يأمر بالسوء ويحمل عليه بما فيه من الشهوات (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) إلا البعض الذي رحمه ربى بالعصمة كالملائكة.
ويجوز أن يكون (ما رَحِمَ) في معنى الزمن، أي: إلا وقت رحمة ربي، يعني: أنها أمّارة بالسوء في كل وقت وأوان، إلا وقت العصمة. ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً، أي: ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة، كقوله: (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ* إِلَّا رَحْمَةً) [يس: 43 - 44].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولا يخلو: إما أن يريد في هذه الحادثة؛ لما ذكرنا من الهم الذي هو ميل النفس لا العزم، وإما أن يريد عموم الأحوال)، الانتصاف: "عموم الأحوال أبلغ في التنزيه وهضم النفس، وابعد عن تزكيتها".
قوله: ((وَلا هُمْ يُنقَذُونَ* إِلاَّ رَحْمَةً))، أي: "ولا هم ينجون من الموت بالغرق إلا لرحمة منا"، هكذا ذكره، وهو استثناء متصل من أعم عام المفعول له، قال أبو البقاء: "هو مفعول له أو مصدر، وقيل: هو استثناء منقطع".
وقلت: تقديره: ولا هم ينجون من الغرق البتة، ولكن رحمة ربي هي التي تنجيهم.