الابتداء بـ (الذين يؤمنون بالغيب)؛ فقد ذهبت به مذهب الاستئناف. وذلك أنه لما قيل: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) واختصّ المتقون بأنّ الكتاب لهم هدى، اتجه لسائل أن يسأل فيقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فوقع قوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إلى ساقته، كأنه جواب لهذا السؤال المقدّر. وجيء بصفة المتقين المنطوية تحتها خصائصهم التي استوجبوا بها من اللَّه أن يلطف بهم، ويفعل بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم، أى الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم، أحقاء بأن يهديهم اللَّه ويعطيهم الفلاح.
ونظيره قولك: أحبّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه، وكشفوا الكرب عن وجهه، أولئك أهل للمحبة. وإن جعلته تابعاً للمتقين، وقع الاستئناف على أولئك كأنه قيل: ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأنّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأجيب: أن المصنف في صدد أن يذكر في الآية وجوهاً ثلاثة، ويشير في التقرير إلى بيان الفرق؛ فبنى الكلام أولاً على الوجهين اللذين هما أقوى الوجوه وعليهما تعويل أهل المعاني دون الثالث، ثم سأل نفسه: هل يجوز ذلك التقدير؟ أي: أن يجري الموصول الثاني على الابتداء و"أولئك" خبره، لأن الوجه الأخير لا يحسن حسنهما لخلوه عن الاستئناف ولزوم فك الموصولين. ولهذه اللطيفة قُدِّم الاستئناف المنطوي على بيان الموجب على الآخرة، وكما روعيت هذه اللطيفة روعيت المناسبة بين الوجهين أيضاً حيث قال أولاً: "نويت" مقرونةً بإذا، وثانياً: "وإن جعلته تابعاً" وإنما كان الوجه الأول أحسن الوجوه لما ذكرنا من بيان الموجب، ولإيقاع "أولئك" خبراً له، وهو أيضاً موجبٌ كما سيجيء.
قوله: (ما للمستقلين بهذه الصفات)، الأساس: ومن المجاز: هو مستقلٌ بنفسه: إذا كان ضابطاً لأمره.
النهاية: يقال: أقل الشيء يُقله، واستقله يستقله، إذا رفعه وحمله، وفي الحديث: "حتى تقالت الشمس" أي: استقلت في السماء، وارتفعت وتعالت.