ووجه قبحه الذي هو كونه كذباً وإخباراً عن الشيء بخلاف ما هو عليه، فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب؛ ليجرّ منفعةً أو يدفع مضرة، أو هو غنيٌّ عنه، إلا أنه يجهل غناه، أو هو جاهلٌ بقبحه، أو هو سفيهٌ لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره، ولا يبالي بأيهما نطق، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق. وعن بعض السفهاء: أنه عوتب على الكذب فقال: لو غرغرت لهواتك به ما فارقته. وقيل لكذاب: هل صدقت قط؟ فقال: لولا أني صادق في قولي: لا، لقلتها. فكان الحكيم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ووجه قبحه) مبتدأ، والخبر: الموصول مع صلته، والضمير المرفوع في الصلة عائدٌ إليه، أو يقال: إن الموصول مقحم، كقراءة من قرأ: ((الذين من قبلكم))، قال: أقحم الموصول الثاني من الأول وصلته، وفي بعض النسخ: ((وجه قبحه هو كونه كذباً)) وهو الوجه، وقيل: ووجه قبحه، معطوفٌ على قوله: ((قبحه))، ودل الموصول على هذا؛ أي: الصارف هو قبحه ووجه قبحه أي: سبب قبحه، ثم وصف قوله: ((وجه قبحه)) بقوله: ((الذي ... )) إلى آخره، فكأنه أشار إلى أن قبح الكذب ذاتيٌّ، ففيه تعسف.
قوله: (لو غرغرت لهواتُك)، وروي: ((لهَواتِك)) بالنصب على أنه مفعول، يقال: الراعي يغرغر بصوته، أي: يردده في حلقه. النهاية: اللهوات: جمع لهاتٍ، وهي لحماتٌ في سقف أقصى الفم، وإنما خصها بالذكر لأنه ما يتلذذ به الإنسان من المأكول والمشروب ينتهي إليها، قال ابن هانئ:
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
وخص الغرغرة لإرادة الإكثار منه، ولعل هذا القائل ما أطرق سمعه ما روينا عن الترمذي، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلاً من نتن ما جاء به)).