لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت، لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة، ولا بُدَّ لكم مِنْ أن يتعلق بكم بعضها. روي: أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً. فإن قلت: فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود، فما معنى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ قلت: معناه أن النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال وأن يكون غيره؛ لأن أسباب النجاة كثيرة، وقد يكون قتال الرجل سبب نجاته ولو لم يقاتل لقتل، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وأنكم صادقون في مقالتكم وما أنكرتم أن يكون السبب غيره؟ ووجهٌ آخرُ: إن كنتم صادقين في قولكم:
لو أطاعُونا. وقعدوا ما قتلوا، يعنى: أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقُتلوا قاعدين كما قُتلوا مُقاتِلين. وقوله: (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ): استهزاء بهم، أي: إن كنتم رجالا دفاعين لأسبابِ الموت، فادرؤوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وما أنكرتم أن يكون السبب غيره)، قيل: "ما" في "ما أنكرتم": مصدرية، وهو معطوف على مقالتكم، ويجوز أن تكون استفهامية إنكارية كقوله: "فما يدريكم؟ " أي: لم تخصون السبب بما تذكرون وتنكرون غيره.
قوله: (ووجه آخر): عطف على قوله: "معناه: إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلاً، وهو القعود عن القتال"، وهو مبني على مفهوم قولهم: على ما قدره: "لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا"، وهذا على لفظه، والسؤال، وهو قوله: "فقد كانوا صادقين"، وارد على الأول، وحاصله: أن كونهم دافعين القتل عن أنفسهم حاصل، والحاصل لا يعلق به شيء، وتلخيص الجواب: أن التعليق وارد على خلاف مقتضى الظاهر، لأن الكلام مبني على إنكار حصرهم سبب النجاة في القعود وجزمهم فيه، بدليل قوله: "وما أنكرتم أن يكون السبب غيره"، وفيه تسليم أن قعودهم كان سبباً للنجاة، يدل عليه قوله فيما سبق: "إن دفعتم القتل، الذي هو أحد أسباب الموت، لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة"،