ذلك على الناس فنسخ الله هذا الحكم وقال: {أحلَّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنُّ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم} [البقرة: 187]. ومعنى "تختانون": تخدعونها بحيث لا تصبرون على هذا التكليف، {فالآن باشروهنَّ وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتَّى ... } الآية.
سلمة بن صخر أراد أن يمنع نفسه من أهله فظاهر منها، ولكنه انكشف له شيء منها ليلة فعجز عن نفسه فوقع عليها، إذن وقع عليها بعد أن ظاهر، وماذا يجب عليه؟ يجب عليه أن يكفرِّ بل إن الكفارة تجب في العزم على الجماع قبل أن يجامع لقوله تعالى: } من قبل أن يتماسَّا ... } يقول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرر رقبة" يعني: أعتق، ورقبة لفظ مطلق يتناول الذكر والأنثى والعدل والفاسق، والمؤمن والكافر، وهذا الإطلاق هو الذي في القرآن، قال الله تعالى: {والَّذين يظاهرون من نِّسائهم ثمَّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبةٍ من قبل أن يتماسَّا} [المجادلة: 3]. رقبة مطلقة ولم يقيد الله تعالى الرقبة بالإيمان إلا في كفارة واحدة وهي كفارة القتل ففي الأيمان قال: {فكفَّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ} [المائدة: 89].
ولم يقيدها بالإيمان، وهنا قال: {فتحرير رقبةٍ من قبل أن يتماسَّا}، قلنا: إن هذا مطلق يتناول الذكر والأنثى، والعدل والفاسق، والمؤمن والكافر، والصغير والكبير، والمعيب والسليم، لأن المطلق على اسمه مطلق غير مقيد بوصف، فأما كونه ذكرًا أو أنثى فهذا محل إجماع، يعني: أن العلماء أجمعوا- فيما أعلم- أنه لا فرق بين الذكر والأنثى، وأما الصغير والكبير فكذلك، إذ لم يفرق العلماء بينهما، وأما العدل والفاسق فكذلك لم يفرقوا بينهما. هذه ثلاثة أشياء، بقي السليم والمعيب، الكافر والمؤمن اختلفوا فيه، اتفقوا على تقييد ما قيده الله، وذلك في كفارة القتل واختلفوا فيما أطلقه الله، فمنهم من قال: ما قيده الله وجب علينا أن نقيده وما أطلقه يجب علينا أن نطلقه، فإذا كان الله عز وجل قال في كتابه: {ونزَّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيءٍ} [النحل: 89]. فإن المطلق إذا لم يقيد بيانه أن يبقى على إطلاقه والمبين مبين، لكن الجمهور على أنه لا بد من الإيمان، واستدلوا لذلك بأن الله تعالى يطلق أشياء وهي مقيدة بأوصاف إما في القرآن أو في السنة، مثلًا: العمل الصالح الحسن وما أشبه ذلك، فهناك أعمال كثيرة مطلقة نحو: من صلى ركعتين فله كذا "من صلى البردين دخل الجنة" هذه كلها مطلقات، وكلها مقيدة بابتغاء وجه الله، كما قال تعالى: {محمدٌ رسول الله والَّذين معه أشداء على الكفَّار رحماء بينهم تراهم ركَّعًا سجَّدًا يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا} [الفتح: 29]. وقال الله تعالى: {لَّا خير في كثيرٍ من نَّجواهم إلَّا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين النَّاس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله} [النساء: 114]. فكل الأعمال المطلقة مقيدة بهذا القيد بالاتفاق، إذن تحرير الرقبة كفارة لما فعل الإنسان من الذنب، عمل
صالح وإذا كان عملًا صالحًا فإنه يحمل المطلق فيه على المقيد، ويوضح ذلك وضوحًا كاملًا حديث معاوية: بن الحكم أنه ذكر أن له جارية ترعى غنمًا حول المدينة وأنه اطلع عليها ذات يوم فرأى الذئب عدا على شاة منها وهي جارية مملوكة، يقول: فلطمها- صكها صكة عظيمة- ثم جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: فعلت كذا وكذا أفلا أعتقها، ماذا يريد من إعتاقها؟ أن يكون كفارة له على صكها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائتي بها"، فجاء بها، فقال: "أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله، قال: "أعتقها فإنها مؤمنة"، مع أن هذه ليست كفارة، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم علَّل الإعتاق بالإيمان في غير الكفارة ففي الكفارة من باب أولى، أيضًا الإعتاق تحرير العبد من الرق يكون محررًا يستطيع أن يعبد الله تعالى على حريته يصل رحمه، يتصدق، يبيع ويشتري، تيسر له الأمور بالحرية وهذا كله إنما يناسب المؤمن وليس الكافر، الكافر بقاؤه في الرق قد يكون أقرب إلى إسلامه، لأننا لو حررناه تحرر وذهب إلى بلاد الكفر أو عثى في الأرض فسادًا، فهذا القول هو الصحيح بمعنى: أنه لا بد من الإيمان في إعتاق الرقبة.
السليم والمعيب: السليم لا أعلم أحدًا نازع في جواز عتقه إذا كانت رقبة مؤمنة ولكن المعيب ينقسم إلى قسمين: عيب لا يخل بالعمل، وعيب يخل بالعمل.
فأما العيب الذي لا يخل بالعمل فلا شك في إجزاء العبد إذا كان فيه عيب لا يخل بالعمل، مثال ذلك: أن يكون العبد أعور، أو أن يكون مقطوع الخنصر من اليد أو من الرجل، أو أن يكون فيه برص، أو أن يكون فيه عرج لا يمنعه من مزاولة العمل وما أشبه ذلك هذا لا شك في أنه يجوز أن يعتق بالكفارة، لكن إذا كان به عيب يمنع العمل كالشلل وكقطع اليد أو الرجل أو قطع الإبهام من اليد فقد اختلف العلماء في إجزائه، فمنهم من قال: إنه يجزئ ومنهم من قال: إنه لا يجزئ، وظاهر النصوص أنه يجزئ، لأن الله تعالى لم يشترط إلا الإيمان، وكونه لا يستطيع العمل يكون كغيره من المسلمين يجعل له شيء من بيت المال أو يلزم السيد إذا قلنا بإلزامه