النفي هل يحمل على الوجود أو على الصحة أو على الكمال؟ ذكرنا قاعدة فيما سبق أن الأصل في النفي نفي الوجود، فإذا لم يمكن بأن وجد الشيء فهو نفي للصحة، فإذا لم يكن بأن كان الشيء صحيحًا مع انتفاء هذا الشيء فهو للكمال. هل هو هنا للوجود؟ لا؛ لأن الإنسان قد يعتكف وليس بصائم إذن نفي وجودها اعتكاف بدون صوم غير صحيح، نفي للصحة؟ إن جاء في الشرع ما يدل على صحة الاعتكاف بلا صوم فليس نفيًا للصحة، وإن لم يأت فهو نفي للصحة، ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن نذر أن يعتكف ليلة أو يومًا في المسجد الحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"، ولم يأمره بالصوم، ورواية أمره بالصوم أنه قال له: "أوف بنذرك وصم" ضعيفة لا تصح، والذي في الصحيحين: "أوف بنذرك"، ولم يأمره بالصوم، ولو كان الصوم واجبًا لا يصح الاعتكاف إلا به لأمره به النبي صلى الله عليه وسلم، إذن وجدنا في السٌنة ما يدل على صحة الاعتكاف بلا صوم، فيكون النفي هنا للكمال، يعني: ولا اعتكاف كاملًا إلا بصوم، وهذا صحيح؛ أي: أن الأفضل لمن اعتكف أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا صائمًا إلا حين قضى الاعتكاف في شوال فإنه لم يصم.
قالت: "ولا اعتكاف في مسجد جامع"، هذا أيضًا نقول فيه ما قلنا في قولها: "ولا اعتكاف إلا بصوم"، هل يمكن أن يوجد اعتكاف في مسجد غير جامع؟ نعم، إذن لا يصح أن يكون نفيًا للوجود، لأنه يمكن أن يوجد، هل يصح الاعتكاف في مسجد غير جامع؟ نعم، لما سبق من أنه يصح لعموم قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المسجد} [البقرة: 187]. بقي علينا نفي الكمال، ولا شك أن الاعتكاف في مسجد جامع أكمل من الاعتكاف في غير جامع، لا سيما إذا تخلل اعتكافه جمعة؛ لأنه إذا تخلل اعتكافه جمعة سلم من الخروج للجمعة، ولأن الغالب في المساجد الجوامع أنها أكثر جمعًا، ولأن الغالب أيضًا فيها أن فيها فوائد لكثرة دروس العلم أو غير ذلك، فلهذا كان المسجد الجامع أفضل وليس شرطًا.
قال المؤلف: "ولا بأس برجاله" هذه الكلمة لا توصل الرجال إلى أن يكونوا في قمة الثقات، بل ولا في الوسط، وإنما تدل على أن الرواة موثقون، فمثل هذه العبارة تعتبر من أدنى مراتب التعديل وليس بجرح لكنه تعديل ضعيف، لكن يقول: "إلا أن الراجح وقف آخره".
استفدنا من هذا الاستثناء فائدتين:
الأولى: أن قولها: "من السُّنة" في حكم المرفوع.