وإذا كان العلماء قد كرهوا الإسراف في الماء ولو على شاطئ البحر فإنهم قصدو بذلك عدم تعود الإسراف، خشية أن يؤدي هذا التعود إلى الإسراف فيما يحتاج إليه من الماء، أو الشك في تمام الغسل عند قلة الماء.
وإن كانت الحقيقة أن الوضوء أو الاغتسال في البحر لا يوصف بالإسراف لأنه ليس فيه إضاعة ماء، وينبغي أن يلاحظ أن التحديد التقريبي الذي أشارت إليه روايات الباب خاص باستعمال الماء بقصد الغسل من الجنابة، أما الغسل للنظافة وحدها، أو مع الجنابة، فبقدر ما تحتاج إليه النظافة وإزالة الأدران والروائح. والله أعلم.
المسألة الثانية: أما غسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل فهو جائز عند الشافعية، ولا كراهة فيه، سواء خلت به أو لا، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء وقال أحمد وداود: لا يجوز الغسل بفضل المرأة إذا خلت به وحكى أبو عمر في هذه المسألة خمسة مذاهب: أحدها: أنه لا بأس أن يغتسل الرجل بفضلها ما لم تكن جنبا أو حائضا. والثاني: يكره أن يغتسل بفضلها أو أن تغتسل بفضله. الثالث: يكره أن يغتسل بفضلها ويرخص لها أن تغتسل بفضله. والرابع: لا بأس بشروعهما في الغسل معا. والخامس: لا بأس بفضل كل منهما، شرعا في الغسل معا، أو سبق أحدهما في الابتداء به من إناء واحد أو خلا كل منهما به، وهذا ما عليه فقهاء الأمصار. ونقل الطحاوي والقرطبي والنووي الاتفاق بين العلماء على جواز اغتسال الرجال والنساء من إناء واحد وروايات الباب -الثانية والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعاشرة- صريحة في ذلك ناطقة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل مع نسائه من إناء واحد، وكلها حجة على من كره أن يغتسل الرجل بفضل المرأة إذا اشتركا في الغسل من إناء واحد.
وقد استدل أحمد وداود على منع الغسل بفضل المرأة، إذا خلت بالماء بما أخرجه الطحاوي والدارقطني عن عبد الله بن سرخس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعا" وبما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث الحكم الغفاري قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة أو بسؤر المرأة" ومع اعتراف الإمام أحمد بضعف هذه الأحاديث [فقد نقل عنه قوله: إن الأحاديث الواردة في منع التطهير بفضل المرأة وفي جواز ذلك مضطربة]. ولكنه قال: صح من الصحابة المنع فيما إذا خلت به. اهـ.
والحق أن هذا الرأي ضعيف والاستدلال له مردود معارض بما صح في مسلم في الرواية التاسعة عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة" وبحديث بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: اغتسلت من جنابة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل، فقلت له: يا رسول الله، إني كنت جنبا. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الماء لا يجنب" أخرجه أصحاب السنن والدارقطني وصححه الترمذي وابن خزيمة، ثم الروايات السابقة الكثيرة تدل على أن كلا من الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجه كان يأخذ من الماء بعد أن يأخذ صاحبه، أي كان كل منهما يأخذ من فضل الآخر.
وقد جمع الخطابي بين ما استدل به أحمد وما استدل به الجمهور بحمل أحاديث النهي على