قلتين فالأصح زوال حكم الاستعمال، ولو استعمل في نفل الطهارة، كتجديد الوضوء فالصحيح أنه ليس بمستعمل، ويجرى هذا في جميع أنواع نفل الطهارة، كغسل الجمعة، وسائر الأغسال المسنونة، وماء المضمضة والاستنشاق والغسلة الثانية والثالثة. واتفقوا على أن المستعمل في الغسلة الرابعة ليس بمستعمل، لأنها ليست بنفل. اهـ.
وهذه التفريعات مبنية على القول بأن الماء المستعمل غير مطهر، وقد استدل أصحاب هذا القول بأن النهي عن الاغتسال في الماء الدائم يخرجه عن كونه أهلا للتطهير، لأن النهي ههنا عن مجرد الغسل، فدل على وقوع المفسدة بمجرده، والوضوء كالغسل في هذا الحكم لأن المقصود التنزه عن التقرب إلى الله بالمتقذرات.
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن علة النهي ليست صيرورته مستعملا، بل صيرورته خبيثا بتوارد الاستعمال، فيستقذر. ولو سلم فالدليل أخص من الدعوى، لأنه في المستعمل في الجنابة، والدعوى كل مستعمل.
كما استدلوا بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة" ووجه الاستدلال أن المراد بفضل طهورها ما سقط عن أعضائها، لأن الباقي في الإناء مطهر باتفاق المنازعين.
ورد هذا الاستدلال بأن الدليل أخص من الدعوى، لأن الدعوى خروج كل مستعمل عن الطهورية، لا خصوص المستعمل في طهارة المرأة، على أن الحديث المذكور فيه مقال، وهو معارض بما أخرجه مسلم وأحمد من حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة" وبما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي بلفظ "اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها، أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله، إني كنت جنبا. فقال: إن الماء لا يجنب" وطريق رفع المعارضة حمل النهي عن أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة على التنزيه.
كما استدلوا بأن السلف اختلفوا فيمن وجد من الماء بعض ما يكفيه لطهارته، هل يستعمله، ثم يتيمم للباقي، أم يتيمم ويتركه؟ ولم يقل أحد: يستعمله، ثم يجمعه، ثم يستعمله في بقية الأعضاء، ولو كان مطهرا لقالوه.
قال النووي: وأقرب شيء يحتج به أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضي الله عنهم- احتاجوا في مواطن في أسفارهم الكثيرة إلى الماء، ولم يجمعوا المستعمل لاستعماله مرة أخرى.
فإن قيل: تركوا الجمع، لأنه لا يتجمع منه شيء. فالجواب أن هذا لا يسلم ولو سلم في الوضوء لم يسلم في الغسل.
فإن قيل: لا يلزم من عدم جمعه منع الطهارة به، ولهذا لم يجمعوه للشرب والطبخ والعجن والتبرد ونحوها مع جوازها به بالاتفاق، فالجواب أن ترك جمعه للشرب، ونحوه للاستقذار. فإن النفوس تعافه في العادة وإن كان طاهرا، كما استقذر النبي صلى الله عليه وسلم الضب وتركه، فقيل: أحرام هو قال: "لا ولكني أعافه". اهـ.