سمع مسروق من أم المؤمنين هذه الفتوى- وكان يعلم فتوى ابن عباس في قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 11 - 13] وأنه قال: رآه بفؤاده مرتين، ورواية أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: "رأيت نورا" وكان متكئا عند عائشة - كعادة العرب المستأنسين لحديث غير العجلين على القيام، فقد جاء من سفر بعيد- ولكن هذه الفتوى المهمة جعلته يعتدل في جلسته ويتوثب - في أدب- لمناقشتها، فقال: يا أم المؤمنين رفقا بي، وصبرا علي، وحلما على جرأتي، أمهليني ولا تعجليني، وأفسحي لي صدرك وإن قف شعرك. ألم يقل الله تعالى: {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 8 - 10] فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها إلا هاتين المرتين، ورأيته منهبطا من السماء عظيم الخلقة له ستمائة جناح على رفرف خضر، يسد الأفق بين السماء والأرض.
ورجع مسروق إلى الكوفة ينشر فتوى أم المؤمنين بين أتباعه وتلاميذه فرضي الله عن الصحابة والتابعين، والعلماء العاملين المحققين.
-[المباحث العربية]-
{لقد رأى من آيات ربه الكبرى} اللام في جواب قسم محذوف و"آيات ربه" مفعول "رأى" و"من" زائدة و"الكبرى" صفة لآيات ربه، ويجوز نعت الجماعة بنعت الواحدة كقوله تعالى: {ولي فيها مآرب أخرى} [طه: 18] والتقدير: والله لقد رأى آيات ربه الكبرى، والمراد بها جميع ما رأى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، ويصح أن يكون "الكبرى" صفة لموصوف محذوف، والجار والمجرور "من آيات ربه" متعلق بمحذوف حال، مقدم من تأخير، والتقدير: والله لقد رأى الآية مندرجة في آيات ربه وواحدة منها، والمراد بالآية الكبرى جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية، وهذا التقدير هو المناسب للرواية التي معنا.
{ولقد رآه نزلة أخرى} أي رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل -عليه السلام- في صورته الحقيقية مرة أخرى في السماء عند سدرة المنتهى بعد أن رآه المرة الأولى بنفس هيئته في الأرض، "نزلة" مصدر من نزل، نصبت نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل، فكانت في حكمها، ولم يقل: "مرة" بدل "نزلة" ليفيد أن الرؤية كانت بنزول ودنو كالرؤية الأولى. وقال ابن عباس: رأى ربه سبحانه وتعالى، وعلى هذا معنى "نزلة أخرى" يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت له نزلات وعرجات في تلك الليلة.
(ما كذب الفؤاد ما رأى) "كذب" بتخفيف الذال، و"كذب" بتشديدها بمعنى واحد، وبهما قرئ، "وما" موصولة مفعول "كذب" و"أل" في "الفؤاد" للعهد أو عوض عن المضاف إليه، والتقدير: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، أي ما كذب الفؤاد المبصر، أي ما