تدخل صلى الله عليه وسلم في كيفية سقي الأشجار، وتقديم الأعلى فالأعلى، في قصة الزبير والأنصاري، التي شرحناها في الباب السابق، بل بمناسبتها نزل قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}
وقد يتساءل المرء: هل من حكمة نلتمسها من الإشارة بغير الصواب، وبقبولها وتنفيذها من الصحابة دون مناقشة مع أنهم ناقشوا في كثير غيرها، كالإذخر، وشهود الزنا، والسلم، وغير ذلك كثير، وما الحكمة في عدم تعديل هذه المشورة من قبل الوحي، وتدارك الثمرة حتى لا تصير شيصا، وقد تلمسنا لذلك حكما وضحناها في بحثنا، نذكر منها:
أولا: هناك من الأمور ما نحسبه شرا لنا. وهو في الحقيقة خير لنا، كحديث الإفك الذي استمر أياما وأياما دون حسم، وقال الله فيه {لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} [النور: 11] وكخرق السفينة، يحسب لأول وهلة أنه شر لأصحابها، فلما اتضحت الحقيقة إذا هو خير لهم، وبالقياس على هذا، فإن المشورة وقعت في أوائل الهجرة، وكان من الجائز جدا أن يطمع الكافرون في تمر المدينة، فيهاجموها حربا لمحمد وطمعا في تمرها، فخروج التمر شيصا يجعلهم لا يطمعون في غير مطمع، وكأن الله يصرف بذلك هجوم الكافرين، حتى يستعد المؤمنون للدفاع.
ثانيا: من المعروف أن الدرس العملي أشد أثرا من الوعظ النظري، ولا شك أن هذا الدرس كان قاسيا عليهم، ومنه حرصوا وتنافسوا بعده في الرقي بأسباب الحياة.
ثالثا: إن الابتلاء بمثل هذا امتحان واختبار {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} [البقرة: 155] فقوي الإيمان يظل متمسكا بالإيمان مهما أصابه، وضعيف الإيمان يظهر ضعفه. فلا ينخدع به غيره {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11] فكانت هذه الحادثة ابتلاء واختبارا لهم، وهي حتى اليوم في هذا الشرح ابتلاء واختبار، وقد نجح الصحابة رضوان الله عليهم في هذا الاختبار القاسي - وهم في أول الإيمان - نجاحا باهرا، فقد استمروا على طاعة أوامره والبعد عن كل ما نهى عنه، بالدرجة نفسها، التي كانت قبل مشورته، ولم يصل إلينا أن أحدا ارتد بسببها، بل لم يرد عتاب أحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، على الرغم من خسارتها الكبرى، رضي الله عنهم أجمعين.
والله أعلم