ثانيها: ما سبيله سبيل التجارب والعادة الشخصية أو الاجتماعية، كالذي ورد في شئون الزراعة والطب وطول اللباس وقصره.
ثالثها: ما سبيله التدبير الإنساني، أخذا من الظروف الخاصة، كتوزيع الجيش على المواقع الحربية، والكمون والفر، وما إلى ذلك مما يعتمد على وحي الظروف الخاصة.
وكل ما نقل من هذه الأنواع الثلاثة ليس شرعا، يتعلق به طلب الفعل والترك، وإنما هو من الشئون البشرية التي ليس مسلك الرسول فيها تشريعا، ولا مصدر تشريع.
والتحقيق أنه من الخطأ أن نطلق هذا الإطلاق، فكل من هذه الأمور منها الواجب شرعا، ومنها المحرم شرعا، ومنها المكروه والمندوب والمباح.
والدكتور عبد المنعم النمر يدخل مع ذلك كل المعاملات، على أنها تدخل تحت قوله "أنتم أعلم بشئون دنياكم" ويؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصدر عنه ذلك بوحي، ولم يكن في ذلك محروسا بوحي مباشر أو وحي سكوتي أو إقراري.
وقد رددت عليهما في بحثين منشورين: بعنوان السنة والتشريع، والسنة كلها تشريع.
والذي يعنينا في هذا المقام: الحديث، تحليله، وفهمه الفهم الصحيح.
فمن غير المعقول فهمه على إطلاقه، بمعنى أنتم معشر مؤبري النخل أعلم من محمد صلى الله عليه وسلم بشئون دنياكم كلها، فالإسلام نصف تشريعاته للدنيا، ونصفه للدين، بل المصالح الدنيوية هي من الدين، ومرتبطة بالدين، يثاب عليها، كما يثاب على الصلاة، فالرجل الذي سقى الكلب، والرجل الذي أنظر معسرا، والرجل الذي أزال غصن شوك، غفر لهم، والمرأة التي حبست قطة دخلت النار.
والرجل يزرع زرعا أو يغرسا غرسا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة له بكل ذلك صدقة، والرجل يأتي شهوته حلاله، له أجر، والبائع الغاش، والمشتري الغاش، والحاكم الغاش، كل هؤلاء عليهم وزر، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعلم بالصالح فيها، عن غيره من البشر، فلا بد من تقييد "أمور دنياكم" ببعض أمور دنياكم، وهذا البعض هو ما وقعت القصة فيه "تلقيح النخل" وكأنه قال: أنتم أعلم بكيفية وفائدة تلقيح النخل مني، وهذه حقيقة لا تضر بالرسالة، ومع أن العلماء يقولون: إن واقعة العين كهذه الواقعة، يقتصر الحكم عليها، ولا ينقل إلى غيرها، أو لا يكون حجة لغيرها، مع هذا لو نقلناها نقلناها إلى ما يشبهها، من الأعمال التي تكتسب عن طريق العلم والتدريب والممارسة والتجارب والخبرة، كالزراعة والنجارة والحدادة والغزل والنسيج والحياكة، والصناعات الأخرى. فهذه ليست من مهمة الرسالة، وليس من مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من مؤهلاته أن يكون ماهرا فيها، ولا خبيرا بدقائقها.
فإذا تكلم مع الخبراء فيها فكلامه مبني على الظن الذي قد يخطئ كأي إنسان غير متخصص، وحديث تأبير النخل من هذا القبيل، ومحاولة تطبيقه - حتى على جميع شئون الزراعة - خطأ، فقد