كما كانت المرأة العربية تختلط بالرجال الأجانب، ولا تحتجب عنهم، وتتعامل معهم، وتجلس معهم، وتحادثهم، وتأكل معهم، ويأكلون معها، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرع أمراً حتى يأتيه الوحي بذلك، حدث ذات يوم أن كان صلى الله عليه وسلم يأكل مع عائشة. فمر بهما عمر رضي الله عنه فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليأكل معهما من إناء واحد، فجلس، فأصابت إصبعه إصبع عائشة رضي الله عنها، فقال: أوه. لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، ثم قال: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ وكرر عمر هذا الرجاء، ولم يكن رسول الله ليفعل من عنده شيئاً لم ينزل به الوحي، حتى كانت ليلة زواجه صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بنت عمته صلى الله عليه وسلم، وكانت تحت زيد بن حارثة، الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نبناه، فكان يدعى زيد بن محمد، فلما أبطل الله التبني، وقال {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5] أصبح يدعى زيد بن حارثة، وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة عمته زينب بنت جحش، وأراد الله تعالى أن يؤكد بطلان التبني، وأن التبني لا يترتب عليه بنوة شرعية، فقضى جل جلاله أن يتزوج محمد صلى الله عليه وسلم بنت عمته، زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، في الوقت الذي لا يحل لرجل أن يتزوج امرأة كانت زوجة لابنه الحقيقي في حال من الأحوال، وتأكيداً لهذا المعنى أقام صلى الله عليه وسلم الولائم في ليلة زواجه بزينب، إقامة لم يسبق له أن أقامها في أية زوجة من قبل، أولم باللحم والخبز والفتيت، ودعا من يعرف ومن لا يعرف، يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم، فيأكلون ويخرجون، حتى زاد عددهم على الثلاثمائة آكل، وحتى قال الداعي إلى الطعام، وهو أنس رضي الله عنه: دعوت حتى ما أجد أحداً.
خرج الآكلون إلا جماعة منهم، جلسوا بعد الأكل يتحدثون، وقد رفعت الموائد، وزينب العروس جالسة في جانب من جوانب البيت، وفي زاوية من زواياه، وكانت امرأة قد أعطيت جمالاً، فتهيأ صلى الله عليه وسلم للقيام، كأنه يريد القيام، واستحيا صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالخروج، واكتفى بالإشارة هذه ليفطنوا لمراده فيقوموا بقيامه، فلم يفطنوا، فقام، فخرج، فخرجوا بخروجه إلا ثلاثة، ألهاهم الحديث، فاستمروا بعد خروجه من البيت جالسين. مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض بيوت أزواجه، مر ببيت عائشة، فسلم عليها، وسلمت عليه، وهنأته بزوجته الجديدة، ثم رجع إلى البيت، فوجدهم، يريد أن يقوموا من غير أن يواجههم الأمر بخروجهم، فأفاق واحد منهم من غفلة، فخرج، وبقي اثنان، فخرج صلى الله عليه وسلم ثانية إلى بيوت أزواجه سودة، وحفصة، وأم سلمة، يسلم عليهن، ويسلمن عليه، ويهنئنه، ووصل صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فوجد الرجلين مازالا جالسين، فرجع، فلما رأياه رجع خرجا، ولم يعلم بخروجهما، حتى لحقه أنس رضي الله عنه، فأخبره أنهما خرجا.
في تلك اللحظات نزلت آية الثقلاء، أو آية الحجاب {يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} [الأحزاب: 53] أي غير منتظرين نضجه {ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} [الأحزاب: 53] فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، وهو يتلو هذه الآية، وأنس يمشي من ورائه، فلما دخل صلى الله عليه وسلم أرخى ستراً على أم المؤمنين زينب، فلم يدخل عليها أنس، كما كان يدخل من قبل، ومن هذه الساعة حرم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يكشفن شيئاً من أجسامهن، حتى الوجه