وفي ظاهر هذه الروايات تغاير، فبعضها يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني، وبعضها يفيد أنه أرسل إليه في الحال، قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بينها بأن عمر، لما فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكره، فسأل عنه، فأخبر برجوعه، فأرسل إليه يرده، فلم يجده الرسول في ذلك الوقت، وجاء هو إلى عمر في اليوم التالي. اهـ
والتحقيق أن التغاير في هذا الحديث متعدد، ففي الرواية الأولى ما يوحي بأن عمر لم يشعر باستئذان أبي موسى حيث قال "ما منعك أن تأتينا" وفي الرواية الثانية والثالثة تصريح بأنه سمعه "قال: قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك"؟
وفي الروايات أن الذي شهد له أبو سعيد، وفي الرواية الخامسة أن الذي شهد له عند عمر أبي بن كعب، وأجاب الحافظ ابن حجر باحتمال أن يكون أبي بن كعب جاء بعد أن شهد أبو سعيد، فشهد، اهـ ويبعد هذا الجمع أن أبا موسى في الرواية الخامسة حينما سئل عن شاهده أجاب بأبي بن كعب، ولم يتعرض لأبي سعيد، مع أنه في الرواية الثالثة يقول: "هذا أبو سعيد" وعند البخاري في الأدب المفرد أن الذي شهد لأبي موسى عند عمر أبو سعيد الخدري أو أبو مسعود، بالشك، وفي الروايات أن أبا سعيد حدث بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الرواية الثانية قال أبو سعيد: "قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا" وفي الرابعة يقول أبو سعيد "كنا نؤمر بهذا" وقال الداودي: روى أبو سعيد حديث الاستئذان عن أبي موسى، وهو يشهد له عند عمر، فأدى إلى عمر ما قال أهل المجلس، قال: وكأنه نسي أسماءهم بعد ذلك، فحدث به عن أبي موسى وحده، لكونه صاحب القصة، وتعقبه ابن التين بأنه مخالف لما في رواية الصحيح، لأنه قال "فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله" واشتد إنكار ابن عبد البر على من زعم أن هذا الحديث إنما رواه أبو سعيد عن أبي موسى، وقال: إن الذي وقع في الموطأ وهم من النقلة، لاختلاط الحديث عليهم.
فالأولى أن يقال: إن هذا التغير سببه اختلاط القصة على الرواة، ويرجح بينها برواية الأوثق. والله أعلم.
(فقال عمر: أقم عليه البينة، وإلا أوجعتك) أي هات شاهداً يشهد معك على صدور هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا ضربتك ضرباً موجعاً، وفي الرواية الثانية "فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا" وفي الرواية الثالثة "إن كان هذا شيئاً حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فها، وإلا فلأجعلنك عظة" أي فهات من يشهد لك، وفي الرواية الرابعة "لتقيمن على هذا بينة، أو لأفعلن" وفي الرواية الخامسة "لتأتيني على هذا ببينة، وإلا فعلت وفعلت"، وفي رواية "فلأجعلنك نكالاً" أي لأفعلن بك هذا الوعيد، إن تبين لي أنك كاذب متعمد.
(فقال أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم) في الرواية الثانية "فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سناً. قم يا أبا سعيد" وفي الرواية الرابعة "لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا" قال ذلك أبي بن كعب إنكاراً لموقف عمر من معاملته لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد أن هذا الحديث مشهور بيننا، معروف لكبارنا وصغارنا، حتى إن أصغرنا يحفظه، وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.