قصة ثالثة تؤكد عناية الإسلام بالضيافة، وتكافل المسلمين، ومسارعتهم لاستضافة المحتاجين، كانت الصفة، المكان المظلل، خلف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مأوى الفقراء والمحتاجين والأضياف الغرباء الذين لا يعرفون أحداً من أهل المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعرضهم بعد صلاة المغرب، فيطلب من المصلين القادرين أن يصحب كل واحد منهم واحداً من أهل الصفة يستضيفه، وكان يقول: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، فطعام الاثنين يكفي ثلاثة مع البركة والقناعة، ومن كان عنده طعام ثلاثة فليذهب برابع، فطعام الثلاثة كافي الأربعة، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، فطعام الأربعة يكفي خمسة، ومن كان عنده طعام خمسة فليذهب بسادس، فطعام الخمسة يكفي ستة.
وفي ليلة من ليالي الجدب والقحط كثر أهل الصفة، حتى فاض العدد عن المصلين، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة، وأخذ أبو بكر ثلاثة، أوصلهم إلى بيته، وقال لابنه عبد الرحمن وامرأته أم رومان: قوموا بواجب الضيافة والإكرام وأتحفوهم حتى أعود، فإن معي شغلاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام عبد الرحمن وأمه وزوجته وخادمتهم بإعداد الطعام، ثم قدموه إلى الأضياف، فقال الأضياف: أين صاحب البيت؟ أين الرجل الكبير ليأكل معنا؟ إننا ما فرحنا بهذه الضيافة إلا لنتبرك بالأكل مع أبي بكر، والله لا نأكل حتى يحضر ويأكل معنا. قال لهم عبد الرحمن: أرجوكم وأتوسل إليكم أن تأكلوا طعامكم، فإن صاحب البيت رجل شديد في واجبات الضيوف، وأخشى أن يصيبني منه ما أكره إن لم تأكلوا، إنه سيظن بي تقصيراً في إكرامكم، فلم يسمعوا توسلاته، ولم يأكلوا.
وجاء أبو بكر بعد ما مضى كثير من الليل، فكان أول شيء تكلم به أن سأل عن ضيوفه، قال لامرأته: هل عشيتم الضيوف؟ قالت له: ما أخرك عن ضيوفك؟ قال: أقول: هل عشيتموهم؟ قالت: أبوا وحاولنا معهم، فغلبونا، وأصروا على عدم الأكل حتى تأكل معهم، أما عبد الرحمن فقد اختبأ من أبيه، يخشى غضبه، نادى أبوه: يا عبد الرحمن. فلم يرد. يا عبد الرحمن. فلم يرد. يا عبد الرحمن. أقسمت عليك إلا جئت إن كنت تسمع ندائي، وجاء يرتجف، يقول: والله ما لي ذنب، هؤلاء ضيوفك فسلهم، قد قدمنا لهم الطعام، فأبوا أن يأكلوا حتى تأكل معهم، توجه إليهم أبو بكر يقول: ما لكم لم تقبلوا طعامنا؟ ما لكم لم تأكلوا؟ قالوا: لن نأكل حتى تأكل معنا. قال أبو بكر -وقد اشتد به الغضب- فوالله لن آكل هذا الطعام الليلة، قال الأضياف: ونحن والله لن نذوقه حتى تأكل معنا. وسكت أبو بكر يكظم غيظه، ويهدئ غضبه، ويستعيذ من الشيطان الرجيم، وفضل أن يتراجع، وأن يكفر عن يمينه، فدعا بالطعام، وجلس يأكل معهم، ونزلت البركة من الله في الطعام كرامة لأبي بكر، فأكلوا حتى شبعوا والقصعات كما هي، كلما رفعت منها لقمة زادت القصعة مثلها، قال أبو بكر لامرأته: يا أم رومان. ماذا أرى؟ هل ترين ما أرى؟ قالت: نعم القصعتان كما هما، بل أكثر مما كانا.
أصبح أبو بكر يحمل القصعتين وخبرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جيش المسلمين يستعد لغزوة مجتمعا يقوده اثنا عشر قائداً، فوضعت القصعتان بين يدي الجنود فأكلوا منها جميعاً حتى شبعوا، وكانت بركة النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزة من معجزاته المشهورة في تكثير الطعام. وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن