قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع، بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقة الخمر، أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية، قال ابن عبد البر: والحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي، دون اللغوي.
ثم قال الحافظ: ويلزم من قال بقول أهل الكوفة: إن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجاز في غيره، يلزمهم أن يقولوا بجواز إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لأن الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر، أراقوا كل ما كان يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة أو مجازاً، وإذا لم يجوزوا ذلك صح أن الكل خمر حقيقة، ولا انفكاك لهم عن ذلك. اهـ
ونتيجة لوجهات النظر هذه نجمل الأحكام في نقاط:
الأولى: أن عصير العنب النيئ، الذي لم يطبخ على النار، إذا غلي واشتد، وقذف بالزبد، وأسكر كثيره، حرم قليله وكثيره، وحد شاربه، باتفاق، أسكر فعلاً أو لم يسكر. ولا يعتد بما حكاه ابن قتيبة عن قوم من مجان أهل الكلام أن النهي عن هذا للكراهة. فهو قول مهجور، لا يلتفت إليه.
الثانية: أن مطبوخ خمر العنب فيه خلاف، فقد كانوا يأتون إلى عصير العنب، إذا اشتد، وغلي، وأسكر، فيطبخونه على النار، حتى يذهب منه ثلثا حجمه، ويبقى الثلث، ويتمطط إذا وضع الإصبع فيه ورفع، كالعسل الغليظ، أو كالطلاء الذي كانت تطلى به الإبل، ويسمونه "الباذق" بفتح الذال وبكسرها، ويقال له: المثلث أيضاً: إشارة إلى أنه ذهب منه بالطبخ ثلثاه، كما يقال لنوع منه: المنصف، إشارة إلى أنه ذهب نصفه، ويسمونه الطلاء أيضاً، لشبهه بطلاء الإبل.
هذا المشروب -أو المأكول- قال البخاري عنه: رأى عمر وأبو عبيدة ومعاذ جواز شرب الطلاء على الثلث، قال الحافظ ابن حجر: وقد وافق عمر ومن ذكر معه على الحكم المذكور أبو موسى وأبو الدرداء وعلي وأبو أمامة وخالد بن الوليد وغيرهم، ومن التابعين ابن المسيب والحسن وعكرمة، ومن الفقهاء الثوري والليث ومالك في رواية عنه وأحمد والجمهور، وشرط تناوله عندهم ما لم يسكر بالفعل، وكرهه طائفة من هؤلاء المجيزيين له، تورعاً.
وقال أبو حنيفة: المطبوخ من عصير العنب، حتى يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه لا يمتنع مطلقاً، ولو قذف بالزبد وغلي بعد الطبخ.
وقال مالك والشافعي والجمهور: يمتنع -إذا صار مسكراً- شرب قليله وكثيره، سواء غلي، أم لم يغل، لأنه يجوز أن يبلغ حد الإسكار بأن يغلي ثم يسكن غليانه بعد ذلك.
وقال أبو الليث السمرقندي: شارب المطبوخ -إذا كان يسكر- أعظم ذنباً من شارب الخمر، لأن شارب الخمر يشربها وهو يعلم أنه عاص بشربها، وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالاً، أي فهو يستحل ما حرم الله.
وقد روي عن ابن عباس: "إن النار لا تحل شيئاً ولا تحرمه".