أحمد ومسلم في سبب نزول آية تحريم الخمر، عن سعد بن أبي وقاص، قال "صنع رجل من الأنصار طعاماً، فدعانا، فشربنا الخمر، قبل أن تحرم، حتى سكرنا، فتفاخرنا، فنزلت {إنما الخمر والميسر .... } ومن المعلوم في "أسباب النزول" أن الأسباب قد تتعدد لنزول آية واحدة، فلا تعارض. وقد اختلف العلماء في مدلول لفظ الخمر، وفي المراد به في قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر}
(أ) قال ابن عبد البر: قال الكوفيون: إن الخمر من العنب لقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} [يوسف: 36] قال: فدل على أن الخمر هو ما يعتصر، لا ما ينتبذ. قال: ولا دليل فيه على الحصر. اهـ فكل ما يدل عليه أن ما يعصره يسمى خمراً، لا أن غيره لا يسمى خمراً.
(ب) قالوا: واتفقت الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى، وقذف بالزبد، فهو خمر، وأن مستحله كافر، ولم يكفروا مستحل نبيذ التمر، فثبت أنه لا يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب.
ورد بأنه لا يلزم من اختلاف الحكم بين أمرين اختلافهما في اللفظ والاسم، فالزنا مثلاً يصدق على من وطئ أجنبية، وعلى من وطئ امرأة جاره، وعلى من وطئ محرماً له، وكلها مختلف في الحكم، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة.
(ج) قالوا: أطبق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه. ورد عليهم بأنه قد ثبت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمراً، وقال الخطابي: زعم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمراً عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحاً لما أطلقوه، وقال ابن عبد البر: إن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة -وهم أهل اللسان- أن كل شيء يسمى خمراً يدخل في النهي، فأراقوا المتخذ من التمر والرطب، ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب. وقال القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره -على صحتها وكثرتها- تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمراً، ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب، وللسنة الصحيحة وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما، وحرموا كل ما يسكر نوعه، ولم يتوقفوا، ولم يستفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة، حتى يستكشفوا، ويستفصلوا، ويتحققوا التحريم، لما تقرر عندهم النهي عن إضاعة المال، فلما لم يفعلوا ذلك، وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنهم فهموا التحريم نصاً، فصار القائل بالتفريق بين عصير العنب وغيره سالكاً غير سبيلهم. اهـ
وذهب بعض الشافعية إلى موافقة الكوفيين في دعواهم: أن اسم الخمر خاص بما يتخذ من العنب، لكنهم يخالفونهم في الحكم، إذ لم يفرقوا بين عصير العنب وغيره، فقالوا بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كل شراب.