يعرفه، لأنه نظر إلى ساقه، ثم صعد النظر إلى ركبتيه صلى الله عليه وسلم، وهو يهز رأسه، كأنه يقول: من هذا الذي يعنفني؟ ثم صعد النظر إلى سرته صلى الله عليه وسلم، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه صلى الله عليه وسلم، ولم يعرفه، ورأى حوله علياً وزيداً ولم يعرفهما، فأخذ يترنح وهو يقول: ما أنتم إلا عبيد لأبي -أبي عبد المطلب- وأنتم عبيد عبد المطلب.
وذهل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منظره، إنه غائب عن الوجود، إنه لا يدرك ما يقول، إنه لا يدرك ما يفعل، إنه قد يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه بسيفه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مسرعاً.
هذه الحادثة كانت وحدها كافية لنزول آية تحريم الخمر، لكن غيرها من أمثالها قد وقع كثيراً وكان القرآن الكريم قد هيأ الأمة لتلقي حكم التحريم، لأن الخمر كانت في دمها، والأمة العربية كانت مدمنة، لا يخلو شرابها على الطعام وفي السهرات من خمر، خمر عنب يستوردونه من خارج منطقتهم، لا يجيدون صناعته، وخمر تمر وبسر وزبيب وشعير وذرة وحنطة يجيدون صناعتها، كان القرآن قد نزل بقوله تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219] فخشي كرماء الناس إثمها، فامتنعوا عنها، أو قللوا من شربها.
ثم نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43] فامتنع المسلمون من شربها قريباً من أوقات الصلاة، وحصروا شربها في الأوقات التي تمكنهم من الإفاقة منها قبل وقت الصلاة.
وأخيراً نزل القرار القاطع المحرم لقليلها وكثيرها، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون* إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90، 91]؟
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في شوارع المدينة: أيها المسلمون، إن الخمر قد حرمها الله. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغكم أن الخمر منذ الآن حرام. وسمع المنادي الشاربون فأمسكوا عن الشرب، وراحوا يريقون ما عندهم منها على الأرض وفي شوارع المدينة، حتى جرت بها شوارع المدينة.
وهكذا حفظ الله للمسلمين جوهرة عقولهم، وحماها من العبث والتغطية والفساد والإفساد، وصان إنسانيتهم من التدهور والهبوط إلى عالم الحيوانات.
-[المباحث العربية]-
(كتاب الأشربة) أي ما يحرم منها، وما يحل، وما يتعلق بالشرب من الآداب.
(باب الخمر) ويقال لها الخمرة، بفتح الخاء، وهي تذكر وتؤنث، فيقال: هذا خمر، وهذه خمر، والخمر مأخوذة من التغطية والستر، يقال: خمر الإناء، بفتح الميم، يخمره بضمها، خمراً، أي ستره